في الأيام القريبة الماضية أدى "ديمتري ميدفيديف" اليمين الدستورية كرئيس جديد لروسيا الاتحادية، وسارعت العديد من التقارير الإخبارية والنشرات التلفزيونية إلى الجزم بأن الرئاسة هي أول منصب منتخب يتولاه "ميدفيديف"، وهو وصف يفتقد إلى الكثير من الدقة، بل وينطوي على مغالطات عديدة. فالانتخابات الرئاسية التي جرت في 2 مارس الماضي واعتبرها البعض مثالاً للديمقراطية واحترام إرادة الناخبين لم تكن في الحقيقة سوى مهزلة شابتها تجاوزات كثيرة. وبدلاً من التلاعب بالكلمات واللجوء إلى أساليب ملتوية لإخفاء الحقيقة علينا أن نقر بأن الرئاسة منحت "لميدفيديف"، وسلمت له جاهزة بنفس الطريقة التي تقلد بها مناصبه السابقة كمدير لحملة الرئيس منتهي الولاية "فلاديمير بوتين"، وكبير موظفي الكريملن، ونائب لرئيس الوزراء. لذا لم يكن مفاجئاً أن يلجأ "ميدفيديف" مباشرة بعد انتهاء احتفالات التنصيب إلى رد الجميل وتعيين "بوتين" رئيساً للحكومة. وعندما سئل "بوتين" عما إذا كان سيتبع التقليد المتعارف عليه في الهيئات الحكومية بتعليق صورة الرئيس على جدار مكتبه امتنع عن الإجابة، لكن النكتة التي انتشرت بعد ذلك تقول إن الصورة التي ستعلق في مكتب الرئيس هي لـ"ميدفيديف" على أن تقابلها صورة لـ"بوتين" وكأنها تراقبه وتملي عليه ما يجب أن يفعل. وبموجب الدستور الروسي لا يستطيع أحد أن يجادل في رئاسة "ميدفيديف"، فهو الرئيس الفعلي الذي يتولى أمور الكريملن ويقود البلاد، لكن ما لم يُظهر الرئيس الجديد قدراً معقولاً من الاستقلالية في اتخاذ القرارات وإدارة دفة السلطة فإنه سيبقى في حاجة إلى طلب الإذن من "بوتين" للذهاب إلى أي مكان في الكريملن. ويبدو أن الغرض من كل هذه المسرحية التي تجري أمامنا هو تأمين "انتقال سلس" لبوتين من منصبه القديم إلى آخر جديد يبقيه على مقربة من صناعة القرار وقيادة البلاد. وبالطبع نتوقع أن يدلي الرئيس الجديد ببعض التصريحات القوية والرنانة يتعهد فيها بإدخال بعض التعديلات الطفيفة على أسلوب الحكم وإجراء تغييرات هنا أو هناك. لكن مع الأسف تُظهر المؤشرات الأولى أن وعود "ميدفيديف" بتوسيع الحريات المدنية، وإنهاء حالة "الفوضى القانونية" المنتشرة في البلاد ليست سوى غطاء موجه للغرب بعد الانتقادات التي ارتفعت في بعض الأوساط غير الرسمية المنددة بتراجع الديمقراطية في روسيا. والحقيقة أن الكريملن كان في حاجة إلى التصريحات المتفائلة للرئيس الجديد لتغطية تجاوزات الانتخابات بنتائجها المعروفة سلفاً، وللالتفاف على الخروقات الأخرى في مجال حرية الصحافة والمكاسب التي يجنيها مؤيدو الكريملن والموالون لسياسته. وبدون هذا الولاء الذي يدين به رجال الأعمال للكريملن وجماعة السياسيين الملتفين حوله ما كان باستطاعتهم جمع الأموال الطائلة وتكديسها في البنوك الغربية. وطيلة السنوات الثماني الماضية لم يطرأ ما يعكر صفو "بوتين" وإدارته للكريملن فاطمأن إلى التظاهر بالديمقراطية، وفي المقابل انضمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جوقة المتظاهرين بالاقتناع أن روسيا حقاً دولة ديمقراطية. والمشكلة أن هذا الميثاق غير الأخلاقي بين الغرب وروسيا لا يساعدنا نحن على الجانب المنادي بالديمقراطية، داخل البلاد، في الاستمرار والجهر بأصواتنا. فقبل يوم واحد من تسلم "ميدفيديف" السلطة وأدائه لليمين الدستورية تعرض العشرات من الأشخاص للاعتقال على يد قوات الأمن فقط لأنهم خططوا لتنظيم مظاهرة ألغيت حتى قبل أن تبدأ. وقد تعهدت الشرطة ألا تعتقل أحداً لو ألغيت المظاهرة وعاد المحتجون إلى بيوتهم، لكن يبدو أن رسالة احترام الحريات التي حرص "ميدفيديف" على الإفصاح عنها لم تصل قوات الأمن وظلت مجرد كلمات تذروها الرياح. وهكذا تعرض "أوليج كوزلوفسكي" العضو في حزب "روسيا الأخرى" إلى الاعتقال وقضى 13 يوماً في السجن بعدما توصل بأمرين للاعتقال في زمنين ومكانين مختلفين، وعندما سئل القاضي عن هذه الواقعة الغريبة قال إن "أمري الاعتقال غير مرتبطين". ومن المهم في هذه اللحظة ألا نخضع لإغراء الانتظار والتعامل مع الكريملن الجديد/ القديم على قاعدة المتهم بريء حتى تثبت إدانته. فعلينا ألا نخدع أنفسنا ونتظاهر بأن "ميدفيديف" انتخب فعلاً كرئيس لروسيا، وبأننا نعرف الكثير عن ماضيه، فلعل ما نعرف عن المرشد الديني السابق للمرشح "الديمقراطي" في الانتخابات الأميركية، "باراك أوباما"، أكثر مما نعرفه عن الرئيس الجديد نفسه. ولا ننسى أن "ميدفيديف" كان منذ البداية مرافقاً للرئيس "بوتين" وملازماً له طيلة السنوات السابقة وأحد معاونيه في أسلوب الحكم الديكتاتوري. لذا فإن ما سيبرئ "ميدفيديف" ليس الكلمات التي يصرح بها، أو الوعود التي يقطعها على نفسه، بل أفعاله على أرض الواقع. ولكي تكتسي كلمات الرئيس أي معنى لابد من اهتمامه أولاً بالقضايا العاجلة التالية: عليه أن يبدأ بالإفراج عن قائمة طويلة من المعتقلين الذين اعتقلوا خلال السنوات التي طور فيها "بوتين" ديكتاتوريته، مستفيداً من علاقاته السابقة بجهاز "كي. جي. بي". وفي هذا الإطار تبرز شركة "يوكوس" للنفط التي زج بمؤسسيها في السجن، فضلاً عن العلماء الذين أدينوا بتهم واهية تتعلق بالتجسس، ثم النشطاء الذين كانت جريمتهم الوحيدة معارضتهم للكريملن وسياساته الداخلية. ولابد للرئيس الجديد حتى يثيب صدق مقولاته حول احترام الحريات المدنية وتعهداته الأخرى من التصدي لمواجهة كراهية الأجانب التي تجتاح روسيا حالياً وتسببت في مقتل أربعين شخصاً في العام الماضي، معظمهم من المهاجرين، أو من الروس غير البيض. وفي الوقت الذي يتعرض فيه نشطاء الديمقراطية إلى الملاحقة والاعتقال تجوب عصابات النازيين الجدد شوارع المدن. ولعل الاختبار الأهم الذي يواجهه "ميدفيديف" هو الطريقة التي سيتعامل بها مع حرية التفكير والتعبير التي تقلصت في روسيا خلال السنوات الثماني الأخيرة. وفي هذا الإطار تستعد "روسيا الأخرى" لعقد اجتماع وطني في 17 من الشهر الجاري لفتح نقاش عام حول القضايا التي ستحدد الأجندة الوطنية في المرحلة المقبلة وذلك بمشاركة ممثلين عن كافة القوى الاجتماعية دون وقف الاحتجاجات في الشوارع. فهل سيستمر التضييق على نشطائنا ويعتقلون لأتفه الأسباب مثل توزيعهم للمنشورات السياسية؟ وهل سنُحرم من الاستشارة القانونية بعد الاعتقال؟ وهل ستواصل المحاكم التصديق على قرارات المتابعة دون وجه حق؟ وحتى نتلقى الأجوبة الشافية والمقنعة على تلك الأسئلة ليس هناك من سبب يدفعنا إلى الوثوق في وعود "ميدفيديف" وأخذها على محمل الجد؟ جاري كاسباروف زعيم تحالف "روسيا الأخرى" المعارض للكريملن ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"