ونحن صغار كان هناك منـزل مهجور تُشم منه في كل يوم وخاصةً بعد صلاة العشاء رائحة الطبخ والشواء، وشيئاً فشيئاً راح الكبار والصغار يتهامسون بأن البيت مليء بالجان والعفاريت، ثم أصبح الهمس حديثاً يُسمع ويُتناقل وتزيد فيه المخيلة الشعبية ما أتاح لها الله من ملكات كبيرة؛ وبعد حين تبين أن ذاك المنـزل كان مقصداً للسارقين من بني الإنس حيث يتجمعون هناك لتوزيع غنائم الليل والنهار، ويخططون لمستقبل نشل الجزعين من الجان الذي يهوى الأكل (المسبك) في هجعة أولى ليالي الشهور القمرية ونهايتها. وقد راقت أخبار العفاريت (النهمة) لسارقي تلك الأيام، فلم يحاولوا نفي ذلك واقعاً، بل بالعكس راحوا يمعنون في زيادة خيال السذج -من أمثالنا- نهاراً والمفجوعين من سرقة أموالهم ومقتنياتهم ليلاً، لهذا كان المنـزل العفاريتي ملاذاً آمناً لا مثيل له والحال بين الناس كما هو: خوف وذعر من السارقين في جزء من النهار.. ومن الجان الذواقة كلما غابت الشمس! قصة أخرى: عند بداية هجوم تهريب المخدرات إلى بلادنا الخليجية لم يكن الأهالي على علم بتأثيرات تلك السموم الخطرة، وحدث أن داهمت نوبات فقدان المخدر أحد الشُبان، مما دفع والديه لطلب مساعدة طاردي -أو محضري- الجان، لأن الابن في اعتقادهم فيه مسٌ من أصحاب الأرض السفليين.. أعاذنا الله منهم؛ وبعد سنوات مات هذا الشاب بسبب تعاطيه للمخدرات وتم الإفراج عن المشتبه بهم من بني العفريت بدون كفالة مالية أو حضورية لعدم كفاية الأدلة عليهم! استرجعتُ تلك الذكريات المُضحكة والمبكية في نفس الوقت وأنا أتابع -بكل سخط- هذا الاندفاع الأهوج من إعلامنا المرئي الفضائي تجاه برامج الجن العلوي والسفلي، التي لا تكاد تتوقف من حين لآخر لمزيد من زيادة جرعة الإثارة، حتى تعود مرة أخرى وقد ملأت بأخبار ملوك الجان والعفريت، وما بين توقف وإعادة هناك برامج بينية عبارة عن كمٍّ من (علماء) تفسير الأحلام وتأويلها. ياالله! كم توقفت ساعة الزمن منذ النبي سليمان -عليه السلام- وقصة الذي عنده عِلمٌ من الكتاب، وقصة موسى -عليه السلام- مع سحرة فرعون وحبالهم التي تسعى، كم توقفت ساعة سكان منطقتنا عند أحداث تلك الأزمنة الموغلة في القدم، والتي لا يعلم إلا الله تفاصيلها وأسباب حدوثها كما وردت في محكم الآيات والسور. دارت ساعات أمم غيرنا معلنة عن عصور العلم والاكتشاف والاختراع والتجارب واستخدام أجزاء الكهرومغناطيس و"النانو"، ولازالت ساعتنا متوقفة على حكايات عفاريت الأرض السفلية، وجن طبقات الهواء العلوية. لو أننا قبلنا -وفي القلب غصة- هذا الشيوع لأخبار قُرنائنا في ما وراء الحُجب بين العامة والأميين وأرباع مدعي التعليم والثقافة، فإننا لا نجد عُذراً لكل هذا الكم من برامج الجان وتفسير منامات أهل الكرى الطويل من قِبل وسائل إعلام العرب، إلا في حالة إيماننا بنظرية المؤامرة التي لطالما عشقها بنو جلدتنا وتغنوا بها. نظرية المؤامرة في هذا الشأن تقول: إن كل تلك البرامج وكثافة ساعات بثها ما هو إلا بهدف إلهاء الناس في المنطقة عن أزماتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنني -شخصياً- غير مؤمن بتلك النظرية وبفاعليتها لسبب بسيط وهو أن هذه الصلة القوية والتزاوج بيننا وبين قبائل الجان والعفريت سابقة جداً على ثورة الاتصالات بكل أشكالها. الحقيقة أنه تتنازعنا ثقافتان بينهما قرون وأزمان، ثقافة ورثناها من الأسلاف القدماء تؤمن بمثل ما نؤمن به أيضاً من حقيقة وجود الجن.. لكنها تجعلهم -ومن يعتقدون أنهم وسطاء لهم أو منجمون يستخدمون قدرات خارقة- مؤثرين جداً في حياتنا وفي قراراتنا حتى ما كان مهماً ومفصلياً في كل شؤون أمورنا، سأعطي مثالاً على هذا من تاريخنا حيث ورد في كتاب "نفح الطيب" لـ(المقري) ما يلي بتصرف: "لما ولى هشام الرضا بن عبدالرحمن الداخل إمارة الأندلس أشخص للمُنَجِّمْ المعروف بالـ(ضبى) من وطنه إلى قرطبة، فلما أتاه وخلا به قال له (هشام): يا ضبىّ أناشدك الله إلا ما أنبأتنا بما ظهر لك، فلجلج وقال: أعفني أيها الأمير فإنني ألممت به. ثم أحضره بعد أيام وقال له: إن الذي سألتك عنه حدّ مني، مع إني والله ما أثق بحقيقته، إذ كان من غيب الله الذي أستأثر به، ولكنني أحب أن أسمع ما عندك فيه، فقال: أعلم يا أمير أنه سوف يستقر ملكك، سعيداً جدّك، قاهراً لمن عاداك، إلا أن مدتك فيه... تكون ثمانية أعوام أو نحوها، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: يا ضبىّ ما أخوفني أن يكون النذير لكمني بلسانك، ثم وصله وخلع عليه وزهد في الدنيا، ولزم أفعال الخير والبِر"، عبْر هذا المُنجِّم الذي يقال إنه يستخدم الجن أيضاً تحدد بعد ذلك سلوك الأمير مع رعيته؛ ألم يكن هناك من داعٍ لتغيير المسار والسلوك السابقين إلا بعبر هذا المُسمى الضبىّ؟ أين العدل والتُقى وكتاب الله؟ أما الثقافة الأخرى فليست إلا ثقافة البحث عن إجابات من الغيب الذي يظنه السذج من علم مستحضري الجان والعفريت، إجابات عن سُبل دفع كرب حياة العرب وانتكاساتهم وهوانهم على الأمم التي بدأت رحلة الحضارة بعدهم بكثير، وأصبحت الآن على كراسي التتويج لسباقات التمدن في حين لازلنا في الدورة الأولى من الماراثون! والبحث عن إجابات لمشاكل وهموم الحاضر وما يمكن أن يخبئ المستقبل من عواصف مُدلهمة ليس محصوراً في مجتمع العوام والبسطاء فقط، بل إن حلقة تلفزيونية عن استحضار الجان كان نجومها رجل أعمال كبير وصيدلي مشهور وعضو مجلس شعب يشار إليه بالبنان! من المفارقات المضحكة أن تغيب عن وسائل إعلامنا حلقات عن تاريخ الجن السفلي الحديث الذي غيَّر بشكل غير مسبوق وجه أرض الخليج وشبه الجزيرة العربية، بما لم يستطع فعله الآن زعماء الجن الأقدمين. أتكلم عن الزيت الأسود اللزج الذي هو عفريت حضاري أخرجه واستخدمه وتنعّم به البشر بدون نفث في القوارير ولا عُقد من قماش ترمى في البحر، أما الجن العلويون المحدثون فلن يقارنوا بتأثيراتهم بما فعله من أدخلوا الرعب قبل سنين في صغار (الرياض) المرتعدين خوفاً من عابري المنزل المسكون بعفاريت غريبة نهِمة للطعام. .. أنا أشير هنا لوسائل الإعلام والاتصال التي لم تُبقِ شبراً في الأرض إلا غزته برسائلها وأخبارها، بحيث يتوارى خجلاً أكبر قادة الجن إذا ما قارن فعله وجنده بما تفعله تلك الذبذبات المتناهية في الصغر. ما رأيك عزيزي القارئ: من يستحق أن يُحتفى به.. الجن العلوي والسفلي ومدّعو التنجيم ومعهم مفسرو الأحلام الذين أشاروا على الأمير الأندلسي هشام الرضا بما يفعل، أم الجان العلوي والسفلي الذي يأتي بالأخبار العاجلة عن قفزات أسعار البترول، وغيرها من الأنباء الحادثة للتو أمامك على الشاشة الفضية؟