الكلام الذي طرح في جلسات ملتقى الهوية الوطنية، يومي 15 و16 ابريل المنصرم، في قصر الإمارات بأبوظبي حول التركيبة السكانية، لا يعتبر جديدا بل مكرراً والتخوفات من نتائج تزايد عدد جنسية ما في البلد كان موجوداً منذ زمن طويل، فأول مرة تم فيها الحديث عن مشكلة التركيبة السكانية وتزايد العمالة الآسيوية كان في خمسينيات القرن الماضي عندما اجتمع بعض حكام المنطقة وتباحثوا في مسألة تزايد عدد الهنود الذين كانت تجلبهم القوات البريطانية كي يعملوا في المؤسسات التابعة لها في المنطقة وحاولوا حل المشكلة إلا أنها لم تنته كلياً. اليوم وبعد خمسة أو ستة عقود من ذلك الوقت يجتمع كبار المسؤولين والمثقفين ويتكلمون عن مشكلات الوطن بشكل واضح وصريح، وقبل هذا الملتقى بأسابيع قليلة كان المؤتمر السنوي لـ"مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" قد تناولت بعض جلساته هذه المشكلة بصراحة بالغة ووضوح تام في العبارات والكلمات والجمل... ووجه الشبه بين هذا المؤتمر وذلك الملتقى أنهما وضعا يدهما هذه المرة على الجرح مباشرة دون لف أو دوران ودون تجميل أو تخفيف بل وزادا بأنهما لم يكتفيا بوضع اليد على الجرح بل الضغط عليه عسى أن يؤدي ذلك إلى التخفيف من ألم ذلك الجرح... ما ميز ملتقى الهوية الوطنية أمر جوهري واحد وهو أن الحديث عن مشكلة التركيبة السكانية في الإمارات والمشكلات الأخرى تم بصورة علنية ومن مسؤولين لهم مواقعهم المهمة في الدولة وكان الكلام بصوت عال وأمام الملأ وليس في اجتماعات مغلقة وعدد محدود من الحضور، وهذا يدل على أمرين الأول أننا نعيش عهداً أصبح فيه الكلام مباحاً حول الأمور التي كان يعتبرها البعض حساسة... والأمر الآخر هو أن المشكلة وصلت إلى حد لم يعد يمكن السكوت عنها أو تجميلها وتزيينها فكان ذلك حول الكلام عن الوطن وهمومه. وما ميز الملتقى أيضاً أنه أكد على أن هموم المواطن هي نفسها هموم المسؤول وإن كان هناك اختلاف في مستوى القلق من تلك الهموم، بين متشائم لدرجة أنه يخشى أن يخسر وطنه ومتفائل لدرجة عدم الإحساس بالخطر الذي يحدق بوطنه، وبين واقعيٍ يقرأ الواقع بمنطقية وحكمة. لا اتفق مع تشاؤم الفريق ضاحي خلفان قائد عام شرطة دبي فيما ذهب إليه من تخوف من أن يأتي يوم يحكم فيه "كوتي" كما يحاول أوباما الكيني الأصل أن يكون رئيساً للولايات المتحدة، فلا "كوتي" ولا "خان" ولا" فرهاد" ولا غيرهم سيكون لهم موقع في الحكم. صحيح أن الوضع صار معقداً للغاية وصحيح أن بعض المواطنين صاروا متخوفين من المستقبل بشكل متزايد ولا يعرفون مصير أبنائهم لكن هذه تخوفات مبالغ فيها ويجب عدم تغذيتها، فأبناء الإمارات رغم أنهم يعتبرون اليوم أقلية في وطنهم إلا أن ولاءهم لهذا الوطن وتمسكهم بحكامهم واستعدادهم للحفاظ على كيان هذا الوطن ليس له حدود... وهذا لا يعني أننا في أمان مطلق فلابد أن نعمل بجد من أجل حل مشكلة التركيبة السكانية في البلد واعتقد أن لجنة التركيبة السكانية التي تم تشكيلها في سبتمبر الماضي تقوم بعمل جيد والجميع ينتظر نتائج عملها والبدء بتنفيذ اقتراحاتها. إننا نمر بوقت حساس جداً يفترض أن تتضافر فيه كل الجهود لحماية هذا الوطن والحفاظ على منجزاته... فإلى اليوم لا اعتقد أن هناك خطراً حقيقياً يجعلنا نفزع مما يحدث في بلدنا ولكن ترك الأمر لفترة أطول دون حلول حقيقية ملموسة على أرض الواقع، سيقربنا من الخطر وسنكون كمن ينتظر النار لتصل إليه ثم يطلب النجدة! ما زلت مؤمناً بأن تنوع الجنسيات المتواجدة في البلد يفيد ويثري المجتمع فبالإضافة إلى حسن المعاملة التي يلاقونها من الحكومة والمواطنين، فإن هذا التنوع يجعل الكثير من القادمين للعمل في الإمارات يحبون هذا البلد ويرغبون في البقاء فيه لأطول وقت ممكن. والحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن أحد هي أننا بحاجة إلى كفاءة وخبرة أبناء الجاليات العربية والأجنبية الموجودة في الدولة بقدر ما هي بحاجة إلى الحصول على فرص عمل جيدة ورواتب مغرية وخدمات متميزة. هناك نقطة أخرى في هذا الموضوع وهي ضرورة التأكيد على "الوطنية" في مسألة الهوية فقد صارت "الوطنية" في خطر وليس الهوية فقط، فإذا كنا نخشى على الهوية من الخطر القادم من الخارج ومن الثقافات الأخرى ومن أمواج العولمة فإن هناك تحدياً في داخل المجتمع يمكن أن يقوى بشكل أكبر وهو الولاء للقبيلة والعشيرة والمذهب والأفكار بل وحتى الولاء "للمال والأعمال" والدراهم على حساب الولاء للوطن... إنها تحديات حقيقية ليس من الصعب مواجهتها ووضع الحلول لها واحتواؤها ولكن التأخير في الالتفات إليها وعدم إعطائها الأولوية في المعالجة قد يكلفنا غالياً في المستقبل. من الأمور التي من شأنها أن تعزز الوطنية ويجب التفكير فيها بشكل أكبر هي حقوق المواطن من حيث التعليم والصحة والعمل والسكن وغيرها من الأمور التي توفرها الدولة حالياً، لكن يفترض أن تتغير آلياتها ومستوياتها في المستقبل وتتحسن حتى يشعر المواطن بعلاقته المباشرة بالوطن وليس بأي شيء آخر. أما ما يعزز الهوية فبلا شك أن اللغة والدين والتراث هي من العوامل المهمة في ترسيخ الهوية الوطنية لأي مجتمع، وفي الإمارات هناك اهتمام بالجانب التراثي لكنه بحاجة إلى تركيز أكبر... كما أن هناك اهتماما بالجانب الديني وهو يحتاج إلى تنظيم... أما اللغة العربية فاعتقد أن الاهتمام بها يجب أن يكون أكثر فتكاد تكون هي اللغة الثانية في البلد بعد اللغة الإنجليزية. يبدو واضحاً أن الأوراق التي قدمت في الملتقى كانت مهمة والمداخلات والتساؤلات لم تقل أهمية عن تلك الأوراق وهذا يؤكد مدى حاجتنا إلى مثل هذه الملتقيات، فإذا كان لابد أن نشكر من فكّر في عقد هذا الملتقى ومن وضع محاوره فإننا لابد أن نؤكد على أهمية أن لا يكون الأول والأخير فمن المهم أن يتكرر وأن يكون هناك أسبوع للهوية الوطنية في كل عام وأن يكون هناك مؤتمر وطني تطرح فيه القضايا المهمة التي تشغل بال المواطنين والمسؤولين على حد سواء. بعد أن انتهى ملتقى الهوية الوطنية، السؤال الكبير الذي يطرح نفسه: ماذا بعد؟ ماذا سنفعل بعد أن تكلمنا وتصارحنا ووضعنا أصابعنا بصدق وإخلاص على جراح المجتمع؟ ليس هناك مجتمع سليم مائة بالمائة لذا يجب أن نعترف بجروحنا حتى نبدأ بعلاجها فكل المجتمعات الشرقية والغربية لديها من المشكلات والسلبيات ما تجعلها خائفة على مستقبلها وإن كان يرى البعض أن مشكلتنا أكبر، لكنها في النهاية مشكلة يمكن حلها إذا بدأنا في الوقت الصحيح والوقت الصحيح لحل هذه المشكلة هو "الآن وليس غداً"، فأي تأخير في حل هذه المشكلة سيكون مُضِراً أكثر وبالتالي سيكون الحل أكثر صعوبة وسيستغرق وقتاً أطول.