في هذا الأسبوع، ونحن نمر بالذكرى السنوية الأولى لعملية تحرير العراق، فإنه سوف يكون من المفيد أن نعيد إلى الأذهان، الأسباب التي دفعتنا لخوض تلك الحرب. ولم تمض مدة طويلة على زيارتي لكوريا الجنوبية، حين كانت حكومة سيئول، منشغلة بالحوار حول ما إذا كانت سترسل قواتها للعراق أم لا؟ وهناك كانت قد أجرت معي لقاءً، صحفية واضح من ملامحها العامة، أنها كانت من الشباب بما لا يجعلنا نظن مطلقا أن تكون قد حضرت الحرب الكورية. سألتني تلك الصحفية قائلة: حدثني، لمَ يتعين على الكوريين أن يرسلوا شبابهم ليقطعوا نصف الكرة الأرضية تقريبا، كي يصابوا أو يقتلوا هناك في العراق؟ وكان قد تصادف أن زرت في اليوم نفسه، نصبا تذكاريا للجنود الأميركيين الذين لقوا مصرعهم في الحرب الكورية. وبين الأسماء المكتوبة في النصب، صديق عزيز لي منذ أيام الدراسة الثانوية، وكان زميلا لي في فريق المصارعة الذي كنا نشترك فيه معا، وقد قضى نحبه في اليوم الأخير من الحرب.
إن سؤالك لوجيه ومنصف-قلت لها- تماما كما هو وجيه ومنصف، أن يتساءل الأميركيون منذ نحو نصف قرن تقريبا، عن السبب الذي دفعهم لأن يقطعوا نصف الكرة الأرضية ترحالا وعناءً ومشقة، كي يصابوا أو يلقوا حتفهم هنا في كوريا الجنوبية. كنا لحظتها نتبادل الحوار في الطابق العلوي لأحد الفنادق الكبرى في سيئول. فطلبت من الصحفية التي تحاورني أن تطل عبر النافذة، إلى الخارج... إلى أسفل الفندق، حيث الأضواء الباهرة والسيارات وكلما هو دال على نمو وحيوية الاقتصاد الكوري الجنوبي الباعث على الإعجاب. وحدثتها عن صورة ليلية لشبه الجزيرة الكورية التقطت بواسطة الأقمار الاصطناعية، وقلت لها إنني أحتفظ بهذه الصورة على طاولة في مكتبي، بالوزارة "البنتاجون". وفيما عدا المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين، حيث لا شيء سوى الظلام الدامس، ومن خلفه العاصمة الشمالية بيونج يانج، فإن باقي الصورة كلها عبارة عن كتلة تضاريسية من الأضواء الباهرة. تلك هي أضواء الحرية في المقام الأول والأخير.
يذكر أن حرية كوريا الجنوبية كانت قد كلفت ثمنا فادحا، ومهرت بالكثير من الأرواح العزيزة والدماء. فقد راح ضحيتها عشرات الآلاف، بينما بلغ ضحاياها من الأميركيين وحدهم، أكثر من 33 ألفا! ولكن ألا تستحق الحرية كل هذا المهر الغالي؟ كذلك كان ثمن الحرية في كل من ألمانيا، فرنسا، وإيطاليا وفي سواحل المحيط الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية. وقد استحقت مؤخرا الحرية المهر ذاته، في كل من أفغانستان والعراق. وفي عالم الإرهاب الذي نعيش فيه اليوم، حيث أسلحة الدمار الشامل والدول المارقة الراعية للإرهاب، والساعية إلى الحصول على الأسلحة المذكورة، فإن الدفاع عن الحرية، إنما يعني على وجه الدقة، أن نواجه الخطر قبل فوات الأوان. وفي حالة العراق، فقد كانت قد أتيحت لصدام حسين كل الفرص الممكنة لتفادي وقوع الحرب. وذلك عبر اثني عشر عاما، وسبعة عشر قرارا صادرا عن الأمم المتحدة. ولم يكن يطلب منه أكثر من الالتزام بما وقع عليه في اتفاقية عام 1991 التي أعقبت حرب الخليج الأولى: نزع أسلحته المحظورة، والبرهنة على أنه قد وفى بذلك الوعد فعلا.
لكن وبدلا من أن يحذو صدام حذو كل من كازاخستان، وجنوب إفريقيا وأوكرانيا-ومثلما تفعل ليبيا الآن- آثر أن ينهج سياسة التحدي والتسويف والمخادعة. نتيجة لذلك، فقد رفض الإذعان لتلك القرارات الدولية، وعمد على نحو منتظم إلى خداع المفتشين الدوليين بشأن أسلحته المحظورة، وإخفاء نواياه الحقيقية عنهم. ولكن كان العالم ملما ومدركا لسجله الذي لم يعد خافيا على أحد: فقد استخدم الأسلحة الكيماوية ضد جيرانه الإيرانيين، بل وضد مواطنيه أيضا. ثم إنه غزا كلا من الكويت وإيران، وأطلق أسلحته الباليستية على كل من إيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والبحرين. كما أطلق جنوده نيرانهم على نحو منتظم ضد الطائرات الأميركية والبريطانية التي كانت تقوم بعمليات الطواف ودوريات الحراسة، في المنطقة التي حظر الطيران فوقها، إبان عهده.
استشعارا منه لذلك الخطر، كان الرئيس جورج بوش، قد سعى في سبتمبر من عام 2002، إلى الأمم المتحدة، التي أعطت العراق فرصة أخيرة نهائية لنزع أسلحته، والبرهنة على التزامه وتنفيذه قرار النزع. وفي الشهر الذي تلاه، لجأ الرئيس بوش إلى الكونجرس الأميركي، الذي صوت على قرار استخدام القوة، فيما لو لم يلتزم صدام بالقرار الدولي المذكور. إلا أن صدام سدر في غيه وتجاهله وتحديه للقرارات الدولية، وفوت الفرصة الأخيرة التي أعطيت له. وعلى رغم ذلك منح فرصة أخيرة لتجنب الحرب، ألا وهي مغادرة البلاد خلال 48 ساعة. وبعد أن استنفدت كافة الفرص والوسائل السلمية لحل النزاع، أعطي الضوء الأخضر للقوات الأميركية وقوات التحالف الدولي لتنفيذ عملية تحرير العراق.
ظالم من يظن أن الأميركيين يستسهلون خوض الحروب وشنها... جاهل من يظن أن الحرية تأتي منساقة إلى أكف الأميركيين، على أطباق من فضة وذهب! لذلك وما أن تضرب الحرية بجذور