منذ فترة ليست قصيرة يدور الحديث الثقافي والفكري في المنطقة العربية عامة والخليج خاصة، حول العلمنة والحداثة والمحافظة والدين. وغرق الجميع في التفسيرات للمفاهيم الغربية لهذه المصطلحات، لندخل في معارك جدلية لا طائل منها سوى استعراض مدى فهم الثقافة الغربية من جانب، وإلقاء الاتهامات جزافاً، بالكفر والإلحاد وتدمير الأخلاق والقضاء على الدين. ولم يتوقف أحد ليسأل نفسه: متى نتوقف عن استيراد كل شيء من الخارج حتى المصطلحات والمعارف؟ بعد أن خلدنا إلى الراحة الفكرية والاسترخاء العلمي وتوقفنا عن الاجتهاد، واستسهلنا استيراد الأفكار والرؤى والتوجهات والمصطلحات من الغرب. ولم لا ونحن نعتمد في كل شيء على الخارج؟ لقد انقسمت الآراء والمواقف في معظم الدول العربية إلى ثلاثة تيارات أساسية؛ التيار الأول يرى في العلمنة والحداثة، بعد أن استفاض في شرح هذه المصطلحات وفق الأدبيات الغربية المختلفة، دعوة إلى الكفر والإلحاد. والتيار الثاني لم يكن أفضل من الأول، إلا أنه ركز على التطور التاريخي للمصطلحات وخلص إلى أن الحداثة والعلمانية والليبرالية مصطلحات غربية شيطانية الهدف منها تدمير الأخلاق والدين الإسلامي. أما التيار الثالث فقد حاول إمساك العصا من المنتصف، فطالب بالاستفادة من الجانب الإيجابي للعلمنة والحداثة دون الخوض فيما يؤثر في العقيدة الدينية. وبالتأكيد نحن لن نخوض في جدل "بيزنطي" لا طائل منه مع كل تيار، ولكن يجب بداية الإشارة إلى وجود قناعة تامة عند كثير من علماء الدين الإسلامي ودعاته المشهود لهم بالكفاءة والإخلاص لدينهم، بأن الإسلام دين حضارة وأخلاق وثقافة، وأن تقليصه إلى مجرد دولة ونظام سياسي ومقارنته بمصطلحات غريبة عنه وبعيدة عن أحكامه، ينفي عنه صبغة القداسة والشمول ليحوله إلى ساحة احتراب بين المسلمين وفتنة بين البشر، لذا فمن الأولى أن يتم التفريق بين الدين كرسالة سماوية خالدة وبين الدولة كإنجاز مدني بشري، حيث الخلط بينهما يقوض أركان المجتمع. وهنا نشير إلى نموذج مهم تجاوز كل المصطلحات وسعى إلى بناء المستقبل، ونعني به دولة الإمارات العربية المتحدة التي تعتبر واحدة من الدول التي تتمتع بأكبر قدر من الاستقرار الداخلي في منطقة الخليج العربي. والمؤسس المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، لم يتوقف كثيراً أمام أي من المصطلحات، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو غيرها من المفاهيم، ولم تُعجزه التحديات والمخاطر المحدقة بمشروعه التنموي والحضاري الكبير، بل استطاع أن يحقق ما يمكن أن نطلق عليه "رسالة زايد"، وتشمل: البناء والاستمرار والتقدم، حيث ثلاثية البناء تشمل: "الاتحاد والإنسان والإرادة"، وثلاثية الاستمرار تضم: "التخطيط والرعاية والتعليم"، وثلاثية التقدم تشمل: "المكانة والأصالة والتنمية". كما تفرَّد بصياغة سياسة خارجية إنسانية، تعتبر أن البشر في أي مكان هم الغاية والوسيلة معاً لصنع التقدم الحضاري، وتناسى المبدأ الشهير في أدبيات السياسة بأن الغاية تبرر الوسيلة، وسط عالم لا يعترف سوى بالمصالح فقط. فكانت النتيجة دولة عصرية انصهرت هوية إماراتها في هوية دولة اتحادية، وحققت أهدافاً كانت تبدو مستحيلة المنال، بفضل إرساء قيم التسامح والتمسك بالخير كقيمة مطلقة تتجاوز حدود الأوطان واختلاف الأديان. لذلك فإنني لا أود أن أخوض في التعريفات والمفاهيم، فهي لا تعني شيئاً أمام تعاظم الأهداف العليا للدولة ومصالحها الوطنية الحيوية، ولكن من المهم فقط ضبط التساؤل؛ فهل نحن نتحدث عن العلمنة بمفهومها الذي خرج من رحم التجربة الغربية، والتي تعني العلمانية بشقيها "الجزئي أو الشامل"، والتي وضعت العالم أو الدنيا في مقابل الكنيسة واللاهوتية، أم أننا نتحدث عن مفهومنا لها على اعتبار أن العلمنة باتت جزءاً لا يتجزأ من الصيرورة الحضارية الحديثة؟ وهذا يعني أنه ليس من الممكن تصوُّر دولة حديثة أو قيامها من دون مبادئ الفصل بين السلطات وضبط المسؤوليات ونشوء مؤسسات تعكس ذلك داخل الدولة. وليس من الممكن كذلك وجود اقتصاد رأسمالي لا يعتمد على المعرفة ويتعامل بمفاهيم العصر، دون خلط بينها وبين المفاهيم الدينية والفقهية. وليس من الممكن بناء مجتمع حديث يتمتع فيه الفرد بالأهلية السياسية ويشارك بروح المسؤولية في تقرير شؤون المجتمع على أساس مفهوم الراعي والرعية. إن العلمنة وفق ما نفهمه لا تعني فصل الدولة عن الدين كما كرَّست ذلك التجربةُ الفرنسيةُ المتطرفة، وإنما تذهب إلى تحقيق التوافق بينهما بعد أن أحدث نشوء الدولة الحديثة قطيعة تاريخية مع المفاهيم والقيم الدينية المتعلقة بتنظيم شؤون المجتمع المدني. ومن المؤكد أن إيجاد توافق جديد بين الدين والدولة، أي بين المعتقدات الدينية للشعب ومؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس هدفه تهميش الدين أو نفيه أو فصله عن المجتمع، وإنما تحقيق مقاربة بين القيم الروحية والاحتياجات المجتمعية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق من دون بناء نظام متكامل يجمع بين التجديد أو الإصلاح الديني والمشروع الحضاري. أعتقد أن العلمنة لا تحتاج كي تفرض نفسها إلى معاداة الدين، وهو أمر أدركه جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده الذي وصف الإسلام بأنه علماني، وأول دين قضى على السلطة الدينية من جذورها. وفي هذا يتفق معه باحثون إسلاميون معاصرون مثل الدكتور محمد سليم العوا الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين، والدكتور حسن حنفي الذي يرى أن النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت، أي عدم وجود المؤسسات الدينية الوسيطة. وأحكام الشرع الخمسة، وهي الواجب والمندوب والمُحرَّم والمكروه والمباح، تعبِّر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وصعوبة أن تتوحَّد المؤسسة الدينية والسياسية في أي مجتمع حضاري مركب، حيث المرجعية النهائية للمجتمع، وهي مرجعية تتجاوز الدنيا والرؤية النفعية، أي أننا في الواقع نتحدث عما أسميه عصر "ما بعد العلمنة". أما فيما يتعلق بالحداثة التي تشغل حيزاً مهماً من الخطاب العربي المعاصر، فإن هناك خلطاً واضحاً بين الحداثة والتحديث، والأمر المثير للقلق هو الارتكان بالوعي العربي إلى مقولات وتعاريف ظهرت في أزمنة تاريخية سابقة. فالحداثة ليست ترفاً فكرياً، بل هي تطبيق منهجية عامة وطريقة في التفكير. ويرى بعض الكتاب العرب، أمثال محمد أركون، وعبدالله العروي، والسيد ياسين، وإسماعيل صبري مقلد، أن الحداثة تتجلى في التجربة العالمية المعاصرة في مظاهر ثلاثة، هي: فوقية العقل، وكرامة الإنسان، ونسبية المصالح، فالحداثة التي تسود المجتمعات المعاصرة ليست مطلقة، بل إنها تقبل النقد لضمان السير في الطريق الصحيح، وهذا ما جعل هذه المجتمعات تتسم بالديناميكية، وتحقق التقدم باستمرار في كافة المجالات، ولم تعد مقيدة بثوابت مطلقة لا حيلة للإنسان فيها، ثوابت لا تخضع للنقاش العقلاني والمنطقي. إن هناك اتفاقاً عاماً لدى مؤرخي الفكر الأوروبيين على أن النهضة الأوروبية قامت على ثلاث دعائم أو حركات هي: (1) النزعة الإنسانية وإحياء الآداب القديمة، وهنا ندرك مدى مدنية وتقدم الحضارة الإسلامية. (2) حركة الإصلاح الديني، وبالطبع لها جذور عميقة الصلة بالإسلام. (3) النظرة التجريبية، وهنا نجد أن الإسلام دعا إلى التأمل في ملكوت السماوات والأرض والنظر في آيات الله. إن هناك حاجة ملحة إلى التجديد الفقهي والاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية في القضايا المتجددة في حياة المسلمين، فالشريعة الإسلامية ذات قدرة فائقة على التطور والتجاوب مع حاجات العصر ومشكلاته، ولا ينبغي أن يظهر الفقه الإسلامي في عصرنا هذا في صورة تراث جامد. لقد آن الأوان لنتجاوز حمى المصطلحات والمفاهيم المستوردة، والتي نتصدى لها بالبحث والدراسة، ونسعى إلى صياغة مصطلحاتنا وفق رؤيتنا وواقعنا وزماننا واحتياجاتنا، دون أن نخوض في مهاترات ومعارك وهمية واتهامات مسبقة، حتى نستطيع أن نبني حاضرنا ونصوغ مستقبلنا وفق إرادتنا، وما تمليه علينا مسؤوليتنا التاريخية، ونسعى بجدية لتغطية عجزنا الاستراتيجي في مجالات عدة. هل أصابنا "العقم الفكري" بحيث لا نستطيع أن نصوغ المصطلحات التي تواكب التطورات العالمية دون أن نصطدم بتقاليدنا ومبادئنا وعقائدنا؟ وهل سنظل أسرى المصطلحات والمفاهيم المستوردة التي تعوق تقدمنا؟!