كلّما تطرّقت إلى موضوع المؤامرات في عمود صحفي، يكتب لي القراء ويشيرون بانزعاج إلى أن المؤامرات موجودة حقاً. ولاشكّ أنها موجودة. فكلّ انقلاب حصل في التاريخ أتى، بطبيعة الحال، نتيجة مؤامرة محبوكة. والناس يتآمرون حين يحاولون الاستيلاء على شركات عبر شراء الأسهم كلها بشكل تدريجي، أو حين يدسُّون القنابل في عربات المترو. لطالما كانت المؤامرات موجودة، بعضها يفشل ولا يكون واضحاً، وبعضها الآخر ينجح، لكنه قد يبقى محدوداً بالإجمال من ناحية الأهداف والفعالية. بيد أن أعراض المؤامرة تشمل مفهوم المؤامرة الشاملة (ويصل بُعدها في بعض الديانات إلى الكونية) الذي يفيد بأن الأحداث التاريخية كلها أو معظمها خاضعة لسيطرة قوّة غامضة واحدة تعمل في الظلّ. ولعل من المؤسف أنّ أحداً -في إيطاليا- لم يتنبّه إلى ترجمة كتاب دانيال بايبس وعنوانه: "المؤامرة: كيف ينتشر الأسلوب الارتيابي، ومن أين يأتي". ويشمل المقال الختامي منه اقتباساً عن الأمير "كليمنس فون ميترنيخ" النمساوي الذي يُشاع أنه عند معرفته بموت سفير روسي قال: "وما كان دافعه؟". وباختصار، تحلّ أعراض المؤامرة -في التفسير التآمري- محلّ عامل الصدفة الذي حرّك أحداث التاريخ، وسيَّر صدفه بطريقة خفيّة و"شرّيرة". أما أنا فلعلي أتمتّع بصفاء الذهن الكافي لأشكّ أنني، في بعض الأحيان، أبدي إشارات ارتياب. أي أن تفكيري يجعلني أرى أعراض المؤامرة في كلّ مكان. ولكن إلقاء نظرة خاطفة إلى صفحات الإنترنت يكفي ليهدئ من روعي. فواضعو نظريّات المؤامرة كثر، وهم غالباً ما يبلغون مستويات عالية من الفكاهة، غير المتعمّدة. وعلى سبيل المثال، فقد تصفحتُ، في يوم من الأيام، موقعاً على الإنترنت باللغة الفرنسية واسمه "عالم اليسوعيين المريض" لجويل لابرويير. وكما يوحي به العنوان، يقدّم هذا الموقع مراجعة واسعة النطاق لكافة الأحداث التي انطلقت من مؤامرة عالمية وضعها أعضاء جماعة اليسوعيين الدينية. وكانت كتابات اليسوعيين في القرن التاسع عشر بمثابة ردّة فعل على الثورة الفرنسية، وبرزت رسائل الأب بارويل الطويلة إلى مجلّة "سيفيلتا كاتوليكا"، وروايات الأب بريسياني، من بين مصادر الإلهام الأساسية لنظرية مؤامرة يهودية ماسونية. وكان من الطبيعي إذاً أن يردّ الليبراليون والماسونيون والجماعات المناهضة للكهنوت على اليسوعيين بالأسلوب نفسه، فابتكروا نظرية المؤامرة اليسوعية. وقد تمّ استيحاء الفكرة الأخيرة من منشورات وكتب شهيرة مناهضة لليسوعيين، مثل "رسائل ريفية" لبليز باسكال، و"إل جيسويتا موديرنو" ("اليسوعية الحديثة") لفيتشنزو جيوبيرتي، أو كتابات جيل ميشليه وأدغار كينيه، بالإضافة إلى روايات يوجين سو، "اليهودي الهائم" و"خفايا الناس". وبالنظر إلى كل هذا التراث من النصوص، لا تعود "الأسرار" المكشوفة في موقع "العالم المريض" جديدة، باستثناء هوس محرريه الكبير باليسوعيين. ولا يمكنني سوى عرض نظرة شاملة سريعة لأن المساحة المخصّصة لمقالي محدودة، وأبعاد هذا المخيال المؤامراتي واسعة وفضفاضة للغاية. وبحسب ما ورد في الموقع المذكور، لطالما جهد اليسوعيون نحو تأسيس حكومة عالمية عبر التحكّم بالبابا وبعدد من الأمراء الأوروبيين. ومن خلال جماعة المتنوّرين من إقليم بافاريا الألماني، حاولت "جماعة يسوع" الدينية إسقاط الأمراء الذين حظروا وجودها. وليس هذا كل شيء، فأعضاء جماعة اليسوعيين الدينية هي مَن أغرق سفينة "تايتانيك"، لأنه بفضل هذه الحادثة تمكّنوا من تأسيس مصرف الاحتياط الفيدرالي الأميركي من خلال وساطة فرسان مالطا (الذين يخضعون أيضاً لسيطرتهم). ويشدّد محررو موقع "العالم المريض" على أن غرق سفينة "تايتانيك" لم يؤدّ بالصدفة إلى وفاة اليهود الثلاثة الأغنى في العالم -جون جايكوب أستور الرابع، وبنجامين غوغنهايم، وإيزيدور شتراوس- الذين عارضوا في ذلك الوقت تأسيس المصرف. وبالعمل من خلال الاحتياطي المركزي، تمكّن اليسوعيون من تمويل الحربَين العالميّتين اللتين صبتا في مصلحة الفاتيكان من دون شك. أما في ما يخصّ اغتيال الرئيس كينيدي، فيجدر التذكير بأن تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كان مخطّطاً يسوعياً مستوحًى من التمارين الروحية للقديس إغناطيوس، وأن اليسوعيين تحكّموا بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من خلال جهاز الـ"كي جي بي" السوفييتي، وبالتالي تم قتل كينيدي على يد الأشخاص أنفسهم الذين أغرقوا "تايتانيك" إلى قعر البحر (ولا شك أن اليسوعيين يستخدمون الممثل أوليفر ستون، وهم يسيطرون على هوليوود أيضاً). وبالطبع يقف التآمر اليسوعي خلف الجماعات النازية الجديدة والمناهضة للسامية كلّها، واليسوعيون يسيطرون على نيكسون وكلينتون، كما قاموا بمجزرة مدينة أوكلاهوما. وهم من أوحى إلى كاردينال سبيلمان الذي حرّض على الحرب في فيتنام، التي جلبت بدورها 220 مليون دولار إلى صناديق الاحتياط الفيدرالي الخاضع لسيطرة اليسوعيين. ولن تكتمل الصورة التآمرية طبعاً من دون مجموعة "أوبوس ديي" التي قيل لنا إنها خاضعة لسيطرة اليسوعيين من خلال فرسان مالطا. سوف أضطر إلى التغاضي عن الكثير من المؤامرات الأخرى. بيد أنه ما من داعٍ للتساؤل عن سبب إقبال الناس الكبير على كتب الروائي "دان براون". فلعلّ لليسوعيين علاقة بذلك أيضاً. أمبرتو إيكو كاتب إيطالي عالمي مؤلف "اسم الوردة" و"بادولينو" و"بندول فوكو" وآخر كتبه "عن القبح" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"