دفعت الأمة العربية ثمناً مكلفاً بسبب الخلافات بين مؤسسات مجتمعاتها السياسية، ويذكر الجميع فواجع الاختلافات بين جماعة "الإخوان المسلمين" والحركة القومية العربية الناصرية، وبين "الإخوان" وحزب "البعث"، أو بين الشيوعيين والقوميين... وغير ذلك من الخلافات، إن على المستويات القطرية أو على مستوى الوطن العربي ككل، وعلى مستوى نظام الحكم أحياناً وعلى مستوى المعارضة أحياناً أخرى. وكانت أفجعها تلك الخلافات العبثية التي دارت مراراً حول تقاسم كعكة لم تخرج من الفرن بعد. ولم تنتبه تلك القوى المتصارعة إلى عبثية خلافاتها، إلاّ بعد كارثة عام 1967 وما تلاها من فواجع متلاحقة طالت الجميع وأكلت الأخضر واليابس ولم تبق لنا إلاَ الصورة البائسة التي نراها أمامنا في جميع أرجاء الوطن العربي الكبير. انطلاقاً من هذا الشعور بالأسى على ما فات وعلى ما ضاع من فرص تاريخية لاجتثاث الاستعمار والوجود الصهيوني في فلسطين ولتحقيق خطوات وحدوية مفصلية، ولإضعاف قوى الاستبداد في الداخل... انطلاقاً من ذلك الشعور، جرت محاولات تقريب وجهات النظر بين الأيديولوجيات السياسية من أجل التفتيش عن قواسم مشتركة في الفكر والأولويات السياسية والأهداف الكبرى. فنتج عن ذلك تنظيم مؤتمرات فكرية، بين القوميين والإسلاميين على الأخص، بيَّنت عظم مساحة المشترك وصغر مساحة التَباين. وثبت أن القفز فوق ثقافة المجتمع الإسلامية أو تهميش العروبة، أمران مستحيلان. ثم أدَّى ذلك إلى قيام تجمعات مشتركة مثل "المؤتمر القومي العربي" و"المؤتمر القومي الإسلامي" و"مؤتمر الأحزاب العربية". وفي مثل تلك التجمعات لم تتقارب الأفكار فقط، بل أيضاً تقاربت المواقف السياسية البحتة إزاء ما يجري في الوطن العربي من أحداث جسام. وقد نتجت عن تقارب المواقف السياسية تلك، نشاطات مشتركة في الشارع العربي. غير أنها ظلت نشاطات محدودة وعفوية ومؤقتة، بسبب غياب التراكم الذي يجعل من الإنجازات الصغيرة إنجازات أكبر وأقوى تأثيراً مع مرور الوقت. وقد طرحت عدة تصورات بشأن الانتقال من ذلك المستوى التنسيقي المتواضع إلى مستوى أكثر فاعلية، ومن العمل الموسمي إلى العمل المستمر المتنامي، ومن القاعدة المحدودة لتلك التجمعات، والمعتمدة أساساً على الأفراد، إلى القاعدة الأوسع والجامعة للأفراد المستقلين مع مؤسسات المجتمع المدني والقوى السياسية والإعلامية عبر الوطن العربي كلٍّه. غير أن تلك الجهود بقيت متعثّرة لأسباب مختلفة. وبالأمس، وفي أصغر بلد عربي، وبصورة متواضعة، لكنها واعدة، أُتخذت خطوة صغيرة بالإعلان عن تأسيس تيار قومي وإسلامي عربي يضمّ أفراداً مستقلين وأفراداً ينتمون لجمعيتين إحداهما قومية ديمقراطية والأخرى قومية إسلامية. وسيركّز هذا التيار جلّ اهتمامه على القضايا القومية -الإسلامية المشتركة، مثل دحر مشروع الشرق أوسطي الأميركي، ومقاومة احتلال العراق، ودعم الممانعة العربية في مواجهة كل أنواع العدوان والتدخلات الخارجية، والوقوف أمام مشاريع التجزئة والتفتيت والفتن الطائفية على مستوى الأقطار العربية، ودعم حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. وسيعمل هذا التيار بصورة ديمقراطية شفَّافة وسلمية. إن قيِّض لهذه الخطوة الصغيرة، بعد أن تثبت نجاحها وفاعليَّتها، أن تصبح أنموذجاً لخطوات مماثلة عبر الوطن العربي كلٍّه فستمهد لقيام الكتلة التاريخية الفكرية -السياسية العربية التي كتب عنها وعمل من أجل قيامها الكثيرون... كتلة مكونة من أفضل عناصر الأمة، أفراداً ومؤسسات، تركّز جهودها على إيقاف التدهور المفجع وبناء سد مجتمعي منيع أمام الجنون الأميركي والبربرية الصهيونية، وبالتالي تبذر الأمل والتفاؤل واليقين بأن التضحيات الهائلة لشباب وشابات الأمة العربية لم تذهب سدىً. د . علي محمد فخرو