هل تعريف كلمة المواطنة بما تتضمنه من حقوق وواجبات، قد وصل إلى توافق مجتمعي عربي، سواء على المستوى الوطني أم المستوى القومي المشترك؟ الجواب هو: كلا، إذ أن مفهوم المواطنة الذي نريد استعارته من الغرب قد مر عبر مراحل تاريخية متعدٍّدة، وفي سيرورة متغيرة، حتى وصل في تلك المجتمعات إلى التوافق الحالي حول ما يعنيه ذلك المفهوم في أدبياتهم الفكرية والسياسية. وهو تعبير له مكوِّّّّّّنات ثلاثة يلخِّصها "ت. هـ. مارشال" في: حقوق مدنية ضرورية لممارسة الحقوق الشخصية، وحقوق سياسية تسمح للمواطن بالمشاركة في ممارسة السلطة السياسية في المجتمع، ومجموعة من حقوق شتى تساهم في حماية الفرد المواطن حتى يعيش في ظروف إنسانية كريمة مقبولة، وبالأخص الظروف المعيشية. ومنذ القرن السابع عشر ترسخت قناعة لدى الغرب، وبعد صراعات وثورات كبرى مثل الثورتين الأميركية والفرنسية المشهودتين، بأن متطلبات المواطنة لا يمكن أن تتحقق إلاَ في ظل النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي. الصورة في المجتمعات الغربية إذن شديدة الوضوح. المواطنة عندهم هي مفهوم فكري -سياسي -تاريخي يحدّد حقوق المواطن وواجباته التي يجب أن يطلع بها. أما في بلاد العرب فالقصة مختلفة تماماً. فكلمة المواطنة ليست جزءاً من التراث العربي -الإسلامي السياسي، إذ مكانها كان مفهوم الرعيِّة الذين يرعاهم راعٍ اختلفت الآراء حول طريقة اختياره ومرجعيَّّّّّّّة سلطته ومحدّدات الاستغناء عنه. وكان الجانب السلبي من مفهوم المواطنة، كما يفهمه الغرب، وهو الخضوع للقوانين والأنظمة، هو الأوضح في مفهوم الرعية. بينما غاب أو بهت الجانب الإيجابي في مفهوم المواطنة، أي مشاركة المواطن الفاعلة المباشرة وغير المباشرة في وضع القوانين والأنظمة وتعديلها واستبدالها ومراقبة تنفيذها، من مكونات مفهوم الرعية عندنا. وكان أن أصبح الإرث العربي الإسلامي السياسي في مجمله إرثاً ااستبدادياً غير ديمقراطي يتعارض مع مفهوم المواطنة الذي يتحدث عنه الغرب. لكن هل الممارسة العربية الإسلامية التاريخية للاستبداد تعني أن المفاهيم والقيم الإسلامية لا تستطيع استيعاب مفهوم المواطنة، كما هو محدَّد في الأدبيات السياسية الأوروبية؟ الجواب على ذلك عند مجموعة كبيرة من المفكرين الإسلاميين العرب، وغير العرب، الذين أكَّدوا مراراً على أن باستطاعة القراءة الصحيحة العصرية العقلانية للإسلام استيعاب الغالبية الساحقة من مكونات النظام الديمقراطي. فإذا كانت تلك القراءات قادرة على استيعاب الديمقراطية والتعايش معها، لاسيما من خلال قراءة صحيحة لمفهومي الشورى والإجماع، أفليس منطقياً الاستنتاج أيضاً بأن الإسلام قادر على استيعاب كل مكونات المواطنة تقريباً، وذلك من أجل تأصيل هذا المفهوم وتبيئته في الفكر السياسي العربى؟ الجواب هو أن مثل هذا الاستنتاج منطقي وممكن، بل وواجب التحقق. ومثل الحداثة العربية التي ستأخذ من حداثة الآخرين، ثم تؤصّل وتجذّر نفسها في الثقافة العربية الإسلامية، لكي لا تصبح غريبة معزولة غير مقبولة من الناس العرب، فكذلك الديمقراطية والمواطنة فإنها ستحتاج أن تفعل الأمر نفسه. إن الحديث عن كلمات من مثل الحداثة والديمقراطية والمواطنة، بصورة مجرَّدة ودون إعطائها وصفاً يربطها بجغرافية وتاريخ وثقافة وظروف محدَّّّّّّدة... هو عبث لا طائل منه. وهذا الأمر ينطبق بصفة خاصة على الكلمات التي لها مدلولات سياسية. ففي السياسة نحتاج إلى إقناع الناس بتقبٌّل السَّير وراء الكلمات والمفاهيم التي نطرحها. والناس لا يمكن أن يقتنعوا بأي مفهوم لا يمتَ بصلة إلى ثقافتهم، الدينية وغير الدينية، وإلى المرحلة التاريخية التي يعيشونها. هناك حاجة إلى وجود مفاهيم عربية، نأخذ بعضها من الآخرين ونضيف إليه، كي تصبح لدينا حداثة وديمقراطية ومواطنة عربية، لا فرنسية ولا يابانية ولا أميركية. سيكون عاراً على كل المفكرين العرب أن يحشروا أمتهم في زاوية الخيار الضيق، بحيث يتحتم عليها أن تختار بين أمرين: إمَّا التقوقع في ثقافة أصولية جامدة متخلفة أو العيش على فتات موائد ثقافات الآخرين!