اجتماع وزراء الإعلام الطارئ، والذي انعقد في رحاب الجامعة العربية مؤخراً، وضع ضوابط إدارية وتنظيمية لعمل الفضائيات التلفزيونية، العامة والخاصة، عبر الوطن العربي كلّّّّّّّّّه. كان الاجتماع طارئاً وسريعاً وحاسماً في قراراته، وكانت ردَات الفعل في الوسط الإعلامي سريعة أيضاً وكثيرة. لكن السؤال المركزي حول أسباب ما حدث وحول الأهداف الخفيًّة وراء القرارات التي اتخذت، يحتاج أن يصاغ بتأن شديد. فهل القضية حقا هي محاولة وزراء الإعلام العرب قمع الحرية الإعلامية عبر المحطات الفضائية، أم أن هناك أسباباً أخرى تثير قلقهم؟ في اعتقادي أن موضوع الحرية المجرَّدة ليس هو الموضوع المركزي. فإذا أخذنا حرية الاعتقاد الديني، فسنرى أن وزارات الإعلام سمحت بحرية مطلقة لعشرات الفضائيات كي تمارس الفهم البليد للدين والتأجيج المذهبي بكل صنوفه والمهاترات البذيئة بين بعض مدَّعي العلم والقيادة في شتًّى حقول الفقه. وإذا أخذنا حريَّة الفن بمجمله فهي واسعة ومصانة إلى أبعد الحدود؛ فالغناء الهابط في المحتوى والأداء، والرقص الخليع المبتذل، وكوميديا اللغو التي ليس لها طعم ولا مذاق ولا هدف، وعروض سينما الجريمة والعنف والرعب والسِّحر والدجل والجنس الرخيص... كلٌّها تملأ الشاشات الفضائية، فلا ترفُّ لوجودها وانتشارها المتسارع جفون وزارات الإعلام. والأمر نفسه ينطبق على كل عروض الأزياء العالمية والمحلية، وعلى كل برامج قراءات الحظ والكف والأبراج، وعلى برامج الاستشارات الشخصية والعائلية التي يقوم بها كل من هبّ ودبّ، وعلى برامج الأطفال التي لا توجد فيها رائحة للتربية أو التوجيه الأخلاقي... وبالطبع فإن حرية العلوم الطبيعية والبيئية والحيوانية... في عرض ما تشاء، ليس لها حدود أيضاً. وحتى الحرية الإعلامية السياسية واسعة، بدليل الحرية التامة في مناقشة كل ما يجري في سائر بلاد العالم من أحداث وانتخابات وانقلابات وكوارث طبيعية واقتصادية. والحرية التامة في إجراء المساجلات اللسانية بين هذا الحزب العربي وذاك، وبين هذا الفصيل العربي وذاك... وحرية استضافة هذا المسؤول الأميركي أو "ذاك الإسرائيلي"، وحرية مناقشة كل أمر مع أي وزير عربي. إذن نحن أمام وزارات إعلام تسمح بحريات كبرى في الدين والمذهب والفن والعلوم وحتى السياسة وغيرها... فأين إذن تكمن المشكلة؟ إنها في نتائج ممارسة الحرية، وفهم المشاكل التي تترتب عليها عاجلاً أو آجلاً... في التشخيص الصحيح وعلاج الأمراض المشخّصة، وفعل شيء ما حيالها! بمعنى أن كل حرية لا تؤدّي إلى أكثر من تأجيج الغرائز، وإثارة الخلافات الفرعية الممجوجة، والمعلومات العابرة غير المترابطة، والسجالات الشخصية الصَّاخبة... سيكون مرحباً بها وستصان إلى أبعد الحدود. فقط هي الممارسات الإعلامية التي ستقود إلى التشخيص الصحيح للعلل والأمراض الحقيقية في المجتمع العربي، وإلى الفهم الصحيح للقوى المسؤولة عن تلك العلل والأمراض... ستحتاج إلى وضع ضوابط لها. ومع أن عدد الفضائيات العربية والبرامج التلفزيونية التي تمارس ذلك النوع من الإعلام، محدود للغاية، فإن صبر كثير من الأنظمة السياسية قد نفد، وتضايقها من ممارسة التشخيص والفهم اللذين يقودان إلى العلاج والفعل... قد أصبح كابوساً يؤرق البعض. كل الثورات الكبرى في العالم، تفجرت بعد أن استقرَّ في عقل ووجدان الناس تشخيص وفهم واضحان وصحيحان لعلل مجتمعاتهم، ومعرفة من يقف وراء تلك العلل. عند ذاك ينتقل الناس إلى الفعل. ما تخافه وزارات الإعلام في أغلب البلاد العربية هو الحرية التي تقود إلى نضوج الفهم، ولو ضمنت بقاء البلادة لأقامت للحرية تمثالاً تعبده. دعنا لا نذرف الدموع على الحرية، بل على إغلاق طرق ومنافذ الفهم! د. علي محمد فخرو