قدّمت إدارة بوش سلسلة من المبررات للحرب في العراق، وكل منها يتصف بالوضوح والدقة التامة، فقيل إن هدف الحرب كان: الكشف عن أسلحة التدمير الشامل، خلع الديكتاتور الوحشي، محاربة دعم العراق للارهاب، والتعامل مع ما وصفه الرئيس بوش بقوله إنه تهديد خطير ومتعاظم. فما هو المبرر الحقيقي من بين ما ذكرناه آنفاً؟
إنه سؤال شامل يتطرق إلى كل شيء وهيمن على الجدل العام في الأشهر القليلة الماضية. لكنه أيضاً سؤال ضيّق جداً. فالأساس المنطقي للحرب كان أوسع نطاقاً وأكثر تجريداً، وهو يفيد بأن الحرب قد تم شنها في سياق سعي إلى رؤية أكبر معنية باستخدام أميركا للتفوق العسكري الساحق بغية صياغة شكل المستقبل. وقد تم لأول مرة رسم ملامح النقاط الرئيسية لتلك الرؤية قبل أكثر من عشر سنوات، أي فور انهيار الاتحاد السوفييتي. ومن الممكن أن نقتفي أثر بعض أهم جوانب حرب العراق، وأكثرها إثارة للجدل- ومنها استعداد الإدارة الأميركية للانخراط في عمل استباقي عسكري- في مناقشات ووثائق يعود عهدها إلى مطلع عقد التسعينيات، أي حين تصدّر مسؤولون في البنتاغون-منهم وزير الدفاع آنذاك ديك تشيني ونائبه آنذاك بول وولفوفيتز- موكب صياغة استراتيجية عسكرية للولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. أما جوهر تلك الاستراتيجية فهو وجوب أن تكون الولايات المتحدة هي القوة العظمى الأولى المهيمنة على العالم، ليس فقط اليوم أو بعد 10 سنوات أو عندما يطلّ العملاق الصيني برأسه، بل إلى الأبد. وقد صاغ هؤلاء عناصر تلك الرؤية بعبارات ظاهرها اللطف والرقة، ومنها أن الولايات المتحدة ينبغي أن تحتفظ بعمقها الاستراتيجي وأن تتصرف في الخارج بغية تشكيل البيئة الأمنية. وما كان من الممكن أن تتمخض هذه الكلمات الغامضة إلا عن شيء هو أبعد ما يكون عن اللطف، إذ أنها أدت إلى الحرب في العراق وقبل كل شيء إلى إطلاق مساعي تشكيل البيئة الأمنية في الشرق الأوسط.
ويستند هذا السرد الذي أقدمه هنا، والذي يستعرض كيفية وضع وتطوير تلك الاستراتيجية وكيفية تأثيرها في سياسات إدارة بوش الحالية، إلى وثائق ومقابلات مع كثيرين من الذين انخرطوا في تلك المناقشات التي دارت قبل 12 عاماً، أي في أثناء ما تبين أنه العام الأخير من إدارة بوش الأب.
في مطلع عام 1992، بدأ البنتاغون بتجميع عناصر وثيقة أعطوها اسم (إرشاد التخطيط الدفاعي)، وهي تشكل بياناً خاصاً بالاستراتيجية العسكرية التي يجري إعدادها كل عامين، ومخططاً أساسياً للموازنات الدفاعية المستقبلية. وباعتبارها النسخة الأولى من وثيقة (إرشاد التخطيط الدفاعي) بعد الانهيار السوفييتي، اتخذت النسخة رقم 92 أهمية خاصة، إذ تم تسريب المسودة الأولى إلى الصحفيين فصارت وما تزال المادة الدسمة للخرافة المتداولة. ذلك أنه جرى على مدى السنوات تداول رواية خيالية ووهمية في معظمها، وهي تفيد بما معناه أن وولفوفيتز قد وضع نسخة لمسودة الاستراتيجية العسكرية، وهي التي تقتضي تحرك الولايات المتحدة لقطع الطريق على أية قوة منافسة في أوروبا أو آسيا أو الشرق الأوسط. وبعد أن أثارت الوثيقة زوبعة الغضب الشديد، تراجعت إدارة بوش الأب ثم تم تلطيف حدة مضمونها ونبذ مسائلها الرئيسية. هذا ما تقوله الأقاويل.
لكن المقابلات مع المشاركين في إعداد الوثيقة تبيّن وتؤكّد خطأ هذه الرواية في جوانب مهمة، إذ ظهر أن وولفوفيتز لم يكتب المسودة الأصلية وأن حدّة عباراتها لم يتم تخفيفها، بل أتت أدلة تؤكّد استخدام عبارات ومصطلحات دقيقة ومدروسة لجعل الرؤية المعنية بالقوة العظمى الأميركية أكثر شمولاً وطغياناً. وعلى رغم أن وولفوفيتز ومساعديه لعبوا أدواراً رئيسية في إعدادها، كان ديك تشيني هو الراعي الأساسي للاستراتيجية الجديدة.
وقد تم إسناد مهمة صياغة وثيقة إرشاد التخطيط الدفاعي إلى زلماي خليل زاده مساعد وولفوفيتز آنذاك، والسفير الأميركي الحالي إلى أفغانستان. وقد أخرج خليل زاده مسودة تؤكّد على الحاجة إلى منع ظهور أية قوة عظمى أخرى، ولا سيما بين الدول الصناعية المتقدمة. وقد أوحت المسودة بأن الولايات المتحدة في هذه البيئة الجديدة قد تتصرف أحياناً من خلال تجمعات من الأمم يتم تشكيلها لغرض خاص، وذلك بدلاً من العمل من خلال التحالفات الدائمة. وقد كان في ذلك نسخة مبكرة لما أطلقت عليه إدارة بوش الحالية اسم (ائتلاف أصحاب الإرادة). وقالت المسودة إن الولايات المتحدة قد تواجهها مسألة ما إذا كان اتخاذ خطوات عسكرية لمنع تطوير أو استخدام أسلحة التدمير الشامل، وفي هذا تلميح إلى إمكانية شن حرب وقائية أو استباقية.
وقام خليل زاده بإرسال نسخ عن المسودة إلى مسؤولين آخرين في البنتاغون طالباً منهم التعليق عليها. وفي غضون أيام معدودة، نشرت صحيفة نيويورك تايمز على صفحتها الأولى تقريراً عن المسودة أثار ردود فعل فورية. لكن المسؤولين في اليابان وألمانيا والبلدان الأوروبية الأخرى كانوا أقل سروراً حيال الفكرة التي تقول إن الولايات المتحدة قد تحاول فرض قيود على القوة العسكرية