ما جرى في كينيا من أحداث دامية عقب إعلان الرئيس "مواى كيباكي" فوزه بدورة رئاسية ثانية في انتخابات شكك في نزاهتها، سيؤثر على السودان سلباً وبدرجة ليس أقلها أن اضطرابات الأمن هنالك قد حالت دون وصول مئات الأطنان من البضائع في ميناء "ممباسا" المنفذ البحري الشرقي الوحيد لجنوب السودان، ولن يقتصر الأثر السلبي لاضطرابات كينيا الدموية -التي خلفت حتى الآن سبعمائة قتيل ودفعت أعدادا كبيرة من الكينيين للنزوح وشردتهم داخل بلدهم- على الآثار الاقتصادية السلبية، فحسب بل امتد وسيمتد إلى العلاقات السياسية والاجتماعية بين السودان عامة وجنوبه خاصة، التي تداخلت وتنامت بشكل واسع أثناء الحرب حتى وصلت إلى مرحلة أصبحت كينيا ومنتجعها "نيفاشا" أكبر حضورا في قضية السلام من الخرطوم عاصمة السودان القومية. وإذا كان الرئيس "كيباكي" قد سارع وفي خضم الأزمة وعنفوانها وبعث بوزير خارجيته للخرطوم، طالبا تدخل السودان لتهدئة الأوضاع بينه وبين المعارضة الشعبية بقيادة "رايلا أودينجا"، فإن الوجه الآخر من رسالته إلى الخرطوم أراد له أن يقول: "إن السودان ونيفاشا سيظلان حاضرين مهما تفاقمت الأوضاع في بلده، وإن حكومته" حريصة على علاقاتها مع الخرطوم برغم ما أشيع عن علاقة خاصة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ومنافسه في الانتخابات "أودينجا" كانت قد رددتها بعض الصحف الكينية وضخمتها". لقد ظلت كينيا وعاصمتها نيروبى تلعب دورا مؤثرا في السياسة السودانية الجنوبية منذ عقود طويلة سبقت تأسيس الحركة الشعبية، لأسباب جغرافية وتاريخية، ولسبب التداخلات الإثنية بين بعض القبائل السودانية والكينية، فمنذ بداية "التمرد" كانت نيروبي هي المحطة الخارجية الأولى لقادة التمرد الجنوبيين الأوائل، وكانت نيروبي وصحافتها نافذتهم الأولى التي أطلوا منها على العالم الخارجي، وكانت نيروبي بما توفره مناخاتها السياسية الفريدة مسرحا لكثير من "الأحداث التاريخية" التي صاحبت "حركة التمرد" وحددت مصائر بعض "قادتها التاريخيين"، وعندما انتقل د. جون قرنق بقيادته السياسية من "أديس أبابا" عقب انهيار نظام حليفه وصديقه "منجستو هيلا مريام" إلى نيروبي، كان ذلك الاختيار الاستراتيجي هو الخيار الأنسب والأبعد نظراً. جوهرة التاج البريطاني الأفريقية (كما كان المستعمرون والمستوطنون البريطانيون يحبون أن يصنفعوا كينيا) ظلت صفوتها تحلم منذ منتصف القرن الماضى، بأن تصبح نيروبي عاصمة القارة الأفريقية –على الأقل إن لم تصبح كذلك، فلتكن عاصمة شرق أفريقيا، وبرغم الدور المقدر الذي لعبته في بداية حركات التحرر الوطني بقيادة "جومو كينياتا" وزميله "أولنجا ودينقا"، فإن الصفوة الكينية سرعان ما انحدرت إلى مستنقع الفساد واستبدال الظلم الاستعماري، بظلم وطني وُصف قادته بأنه الأسوأ والأكثر شراً بين رصفائهم ؛ وإذا كان ثمة درس يمكن أن يستفيد منه الناس من المآسى التي أسفرت عنها وخلفتها مأساة الانتخابات الكينية الأخيرة، فإن هذا الدرس يستخرج من على امتداد تجربة الحركة والأحزاب السياسية الكينية منذ لحظة إعلان استقلال كينيا، فإن هذه التجربة التي كان الغرب يروج لها فيما مضى وما صحبها من بريق لامع موسوما بالديمقراطية والليبرالية، كانت تحتضن في أحشائها كل صنوف الفساد والظلم وإذلال المواطنين الفقراء وجشع أغلبية الصفوة وانحطاطها الأخلاقى بلا حدود، وحال كهذا لابد أن ينتج عنه في النهاية ما نتج عنه في "نيروبي" وغيرها من مدن كينيا، حريق مدمر سيقود البلاد إلى الدمار والهلاك، إن لم يتداركها عقلاؤها على قلتهم!! عبد الله عبيد حسن