في إطار النقاش الفكري والصراع السياسي الدائر اليوم في العالم العربي، الذي يسيطر عليه الجدال بين أصحاب المرجعيات الدينية وأصحاب المرجعيات السياسية الحديثة، تكاد الليبرالية تتحول إلى تهمة مثلثة تشمل التمسك بعلمانية معادية للدين أولاً، وإنكار المصالح الشعبية والاجتماعية ثانياً، والتصالح مع الاستعمار والسيطرة الأجنبية والتعلق بأذيال الدول الغربية والاستقواء بها أو الانحياز إلى معسكرها، وبشكل خاص الولايات المتحدة الأميركية ثالثاً. والواقع، بعكس ما هو شائع اليوم، في الاستخدام الأيديولوجي للمصطلح، ليس هناك ارتباط حتمي بين نزعة الحرية والانعتاق التي تعبر عنها الليبرالية ونزعة العداء للدين، ولا بينها والبرامج الاجتماعية اليمينية، ولا حتى بالرأسمالية كمنظومة اقتصادية، حتى لو أن وجودها ما كان ممكناً من دون نشوء النزعة العقلية والإنسانية، والمجتمع الصناعي الذي حملته الرأسمالية، وتقدم الحضارة الغربية. فالفلسفة الليبرالية هي التي أسست لحرية الاعتقاد، وكانت ولا تزال الملهم الرئيسي لحركات مقاومة الرأسمالية ومناهضتها. وبعكس ما هو شائع اليوم، لم تأتِ الفكرة اليسارية كنقيض لقيم الليبرالية، وإنما جاءت من داخلها، وباسم تحقيقها الفعلي، أعني قيم الحرية والانعتاق الكامل للفرد من الاستلابات المادية والأيديولوجية المتمثلة في سيطرة الملكية الخاصة والاستغلال الطبقي والوعي الزائف. وهذا ما سعى إلى عمله ماركس الذي وجه نقده للرأسمالية، التي فتكت بقيم الليبرالية وخانتها بقدر ما أسست لديكتاتورية رأس المال وأصحابه، وليس لليبرالية ذاتها. ولم تكن لمشروعه الشيوعي غاية أخرى سوى التحقيق الفعلي لقيم الديمقراطية وغاياتها. هكذا كان ماركس سليل الفكر الليبرالي وثمرته. ولا يغير ذلك أنه كان مفجره أيضاً بقدر ما دفع أطروحاته النسبية إلى حدودها القصوى. وبالمثل، ليس هناك أي سبب في أن يكون الليبرالي مستلب الإرادة القومية وملتحقاً بالاستراتيجيات الغربية. فالليبراليون هم بناة الأسواق القومية باعتبارها مفرخة للرأسماليات الوطنية. وكان دفاعهم عن السيادة مرتبطاً بإيمانهم أن الدولة لا تخضع لأي مرجعية أخرى غير مرجعية الإرادة العامة للمواطنين المكونين لها. في البلاد الفقيرة والضعيفة وحدها تبدو السياسات الليبرالية مدانة بالتبعية، لحاجتها إلى الاستعانة بالخارج وأحياناً بالحماية الأجنبية للتعويض عن ضعف قاعدتها الاقتصادية والاجتماعية. لكن ليست هذه السياسة جزءاً من الفلسفة الليبرالية ولا امتداداً ضرورياً لها. فالليبرالية غير الليبراليين ولا ينبغي تخفيضها إلى مستوى ممارساتهم التاريخية، تماماً كما أنه لا ينبغي توحيد الفكرة القومية آلياً مع ممارسات من يتبنون قيمها ومبادئها. وهو ما ينطبق أيضاً على الفكرة الاشتراكية والإسلامية. وليست لليبرالية كفلسفة سياسية أيضاً علاقة ضرورية مع اقتصاد السوق. فهو سابق عليها، وإنما هناك سوق رأسمالية، وسياسات اقتصادية تتغير معالمها وآليات عملها أيضاً من حقبة لأخرى ومن بلد لآخر، تتخذ من الليبرالية غطاءً أيديولوجياً ومصدر شرعية لها. وكذلك، ليس هناك أي علاقة حتمية بين الليبرالية والاستلاب السياسي والثقافي للغرب، والتبعية للمؤسسات الدولية الرأسمالية كما يبدو لنا اليوم. فلا ينبع هذا الاستلاب ولا تلك التبعية من فكرة الليبرالية وقيمها، وإنما بالعكس من غياب شروط تحقيقها في الكثير من البلدان، وسعي النخب المتأثرة بقيم الليبرالية إلى طلب المساعدة الخارجية لإنجاح ما يمكن إنجاحه من سياسات الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية. وهذا هو مصدر نشوء الليبرالية الاستبدادية، أي المتمحورة حول حرية التجارة واقتصاد السوق والمفصولة عن الليبرالية السياسية التي أصبحت مرادفاً للديمقراطية. في أحد مدلولاتها الأكثر شيوعاً، تتساوى الليبرالية مع سياسة تحرير التجارة وإطلاق يد رأس المال من دون قيود والاحتكام إلى قانون المنافسة الاقتصادية. وهو ما يمكن وصفه بالرأسمالية. وهي ذاتها يمكن أن تكون منضبطة أو مجردة من أي قيود أو وصاية اجتماعية. وفي مدلولها الثاني تنسجم مع شكل من أشكال الديمقراطية التي تستمد السلطة شرعيتها فيها من المشاركة الشعبية الفردية، وتعطي للسلطة التشريعية موقع القلب من نظام السلطة بأكملها، وترفض وضع قيود على حريات الأفراد غير تلك التي تهدد حريات الآخرين. وفي مدلولها الثالث تشكل الليبرالية أخلاقيات للعيش يتجاوز مداها مسألة تنظيم السلطة وإدارة الاقتصاد، لينفذ إلى صلب الحداثة نفسها بوصفها دعوة موجهة إلى كل فرد للتحرر من الوصايات الخارجية وتحمل المسؤولية إزاء نفسه والمجتمع الذي يعيش فيه، ومقاومة كل أشكال تقييد الحرية وانتهاك حقوق الإنسان، من أي مصدر جاءت، بما في ذلك رأس المال والسلطة الاقتصادية. بهذا المعنى الأخير كلنا ليبراليون: من إسلاميين واشتراكيين ورأسماليين وقوميين، تفصل بيننا السياسات الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية، ويجمع بيننا الميل المشترك إلى تعظيم قدر الحرية الفردية ودولة القانون. وهذا ما نسميه بالديمقراطية. بل تشكل الليبرالية بهذا المعنى مرجعية الحقبة التاريخية التي نعيش في كل مكان، بعد انهيار الصيغ الدولوية التي سيطرت في الحقبة الماضية. ومن يرفض هذه المرجعية، إسلامياً كان أم قومياً أم يسارياً أم يمينياً، يدين نفسه بالعزلة والانطواء، ويتحول إلى مستحاثة لا تاريخية. لكن بالرغم من أن ما يجمع بيننا هو الليبرالية، ليس لدينا في العالم العربي لا تيار ليبرالي ولا حزب ليبرالي بالمعنى الشائع للكلمة في عالم اليوم أيضاً. وما نعرفه منها في مجتمعاتنا لا يتعدى ممارسات وسياسات حكومية أو نزوعات فردية شبه ليبرالية تربط بين السياسات التخصيصية، والتبعية الاستراتيجية للغرب والدفاع عن نظم سياسية مؤسسة على الإقصاء والاحتكار، وإعدام الحريات الفردية والجمعية، والتلاعب بالإرادة الشعبية. وهي تكاد لسوئها الواضح وعواقبها المأساوية، تخجل من الإفصاح الصريح عن نفسها، أو من إعطاء نفسها اسماً صريحاً حتى لا تؤخذ بتهمة الخيانة الفكرية، وتجهد كي تبقي ليبراليتها المجهضة والمشوَّهة، متخفية تحت رداء من الأطروحات الأيديولوجية الإسلامية أو القومية أو العلمانية. من هنا، يبدو لي أن الهجوم الكاسح لبعض تيارات الإسلام السياسي واليسار العربي على الليبرالية لا يمس بسوء سياسات هذه الرأسمالية المتوحشة، ولا التبعية البنيوية التي تستبطنها، كما يعتقد أصحابه، وإنما بشكل رئيسي روح التحرر والانعتاق الجديدة الناشئة. ولا تستفيد منه اليوم سوى بعض النظم التسلطية التي تريد أن تقتل هذه الروح في مهدها. ولن تكون ثمرة تسفيه الليبرالية ودفن أفكارها وفلسفتها سوى الحكم على مجتمعاتنا بالغرق أكثر في الرثاثة الثقافية والاستغراق في اجترار التراث والحياة فيه. لا يعني ذلك تحريم نقد الليبرالية، تماماً كما لا يعني تقديس الحداثة وقيمها، وإنما التمييز في هذا النقد، من جهة أولى بين معاني الليبرالية ووجوهها المختلفة، حتى لا نرمي الوليد مع ماء الولادة، ومن جهة ثانية بين الفكرة الأصلية وتطبيقاتها على يد هذه النخبة أو تلك. وكما أن من المفيد أن نفصل بين الليبرالية السياسية التي تؤسس للديمقراطية، والليبرالية الاقتصادية، كما أخذت تشيع منذ خطف اليمين الرأسمالي فكرة الحرية الفردية ودمجها مع سياسات اجتماعية لا تأخذ بالاعتبار إلا مصالح تراكم رأس المال، من المفيد كذلك أن نفصل الليبرالية عن التبعية للدول الغربية، ولا نعتبر أي ليبرالي حليفاً كامناً للقوى الاستعمارية، كما يفعل كثير منا اليوم. فمن دون نقد الليبرالية، أي تمثل قيمها واستيعاب مفاهيمها لن يكون بإمكاننا، مهما فعلنا، أن نجدد ثقافتنا البالية، ونبني حياة فكرية حقيقية، ونؤسس لحرياتنا السياسية.