كانت مجلة "التايم" الأميركية هي آخر مطبوعة تجد نفسها مفتونة بصورة فلاديمير بوتين كرجل يتمتع بثقة هائلة في النفس وشخصية فولاذية. ولم تقصر المجلة في إبداء إعجابها الشديد بملامح وجه الرجل التي تبدو وكأنها قد قُدَّت من صخر وعينيه النفاذتين. ووصفت المجلة الرئيس الروسي كذلك بأنه رجل "ذو قوة كامنة"، وأن النظرة المنبعثة من عينيه تقول -كما تخيلت المجلة: "أنا المسؤول هنا ولا أحد سواي". واختيار "التايم" لبوتين كي يكون شخصية العام ليس من قبيل المبالغة بأي حال من الأحوال، كما أن ما قالته عنه لم يكن نوعاً من التمجيد المبالغ فيه. فلقب شخصية العام -كما تقول المجلة- يعتمد على معايير تؤدي إلى اختيار شخصيات غاية في الأهمية بيد، أنها قد لا تكون حميدة أو طيبة بالضرورة. فهي بعد أن وصفته بالصفات المذكورة أعلاه لم تتردد في وصفه بأنه رجل يخلو من سحر الشخصية، وروح الدعابة، وأنه في الحقيقة "قيصر" قام بالحد من الحريات في دولته إلى حد دراماتيكي. ومع ذلك يمكن القول إن المجلة قد روجت للأسطورة المركزية التي خلقها بوتين، والتي عملت إدارة بوش دوماً على الترويج لها، وأصبح هناك الآن اتجاه متزايد لقبولها ليس كأسطورة فحسب وإنما كحقيقة تاريخية. من ضمن مفردات تلك الأسطورة أن بوتين بتحويله روسيا من ديمقراطية إلى أوتوقراطية، قد حولها أيضاً من الفوضى إلى الاستقرار. فروسيا منذ ما يقرب من عقد من الزمان كانت بحسب "ناثان ثورنبرج" -كبير محرري التايم- دولة بلا دفة تسودها الفوضى العارمة، وتنتشر فيها الجريمة، وتقودها حكومة من اللصوص في الكرملين على رأسها "بوريس يلتسين". وهذا الكلام طبعاً ليس صحيحاً على إطلاقه لأن الحقيقة هي أن معدل الجريمة والفساد قد زادا في روسيا بعد أن تولى بوتين الحكم خلفاً لبوريس يلتسين. وفي محاولة تصحيحية مفيدة للأقوال السائدة عن روسيا يستشهد "مايكل ماكفاول" و"كاثرين ستونر- وايس" من جامعة ستانفورد بإحصائيات رسمية روسية، كي يثبتا أن معدل جرائم القتل السنوية قد ارتفع في روسيا من 30.200 جريمة خلال السنوات 1995 و1999 إلى 32.200 جريمة خلال السنوات ما بين 2000 إلى 2004. في نفس الوقت صنفت منظمة الشفافية الدولية روسيا في المرتبة 121 من بين 163 دولة فيما يتعلق بدرجة انتشار الفساد. وعلى رغم أن أسعار النفط المرتفعة قد أتخمت الخزينة الروسية، وأدت إلى زيادة المرتبات بمقدار الضعف، فإن الروس لا يزالون يموتون في سن صغيرة (لا يزيد معدل العمر المتوقع للروسي عن 59 عاماً) كما ترتفع بينهم نسبة المرض، وينجبون عدداً أقل من الأطفال. وطالما أن الأمر كذلك.. فما هو أساس الأسطورة التي سادت عن بوتين؟ إن روسيا أكثر رخاءً اليوم مما كانت عليه عندما تولى بوتين السلطة، كما أن الروس في كافة شرائح الدخل قد استفادوا من هذا الرخاء. فروسيا، شأنها في ذلك شأن معظم الدول الاشتراكية في عصر ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عانت من ارتفاع نسبة الفقر والاضطرابات السياسية في النصف الأول من عقد التسعينيات قبل أن يقوم يلتسين بتعيين رئيس وزراء جديد هو "يفجيني بريماكوف" الذي استعاد توازن النظام المالي في روسيا وضمن لها الخروج من أزمتها، وذلك قبل أن يظهر بوتين نفسه على المسرح. وعندما جاء الوقت الذي تولى فيه بوتين منصبه كرئيس جمهورية، كانت صور النساء العجائز الروسيات اللائي يبعن حاجاتهن الشخصية، والتي يتذكرها جيداً الزائرون الأجانب لروسيا خلال تلك الفترة، قد أصبحت شيئاً من الماضي. واستأنف بوتين الإصلاح الاقتصادي في سنواته الأولى وتمكن من خلق انطباعات جيدة، ولكن عندما قرر بعد ذلك أن يضيق على الحريات الشخصية، ضيق أيضاً على المبادرات الفردية والمشاريع المستقلة، وبدأ في العودة بالاقتصاد تدريجياً إلى السياسات الاشتراكية ما أدى إلى الحد من تدفق الاستثمارات الأجنبية. والشيء المذهل هو أن معدل النمو الاقتصادي الروسي، وبالرغم من الارتفاع الهائل في أسعار النفط قد هبط. فروسيا التي كان معدل نموها الاقتصادي يضعها في المرتبة الثانية عام 2000 بين الخمس عشرة جمهورية التي كان يتكون منها الاتحاد السوفييتي تدهورت إلى المرتبة الثالثة عشرة عام 2005! ويتوصل "ماكفاول" و"ستونر- وايس" من خلال ذلك إلى استنتاج مؤداه: "أنه لو كانت هناك علاقة ظرفية بين السلطوية وبين النمو الاقتصادي في روسيا فإن هذه العلاقة سلبية". وطالما أن الأمر كذلك فما هو السبب الذي يجعل بوتين يحظى بكل هذه الشعبية؟ هناك الطفرة النفطية، وهناك حقيقة أن التلفزيون الذي تسيطر عليه الدولة وتوجهه يؤله بوتين من دون حساب.. بيد أن السؤال الأدق في رأيي يجب أن يكون: هل هو يحظى بشعبية طاغية حقاً؟ الإجابة على مثل هذا السؤال يمكن استنتاجها من شيئين: استطلاعات الرأي -بيد أننا يجب أن نعرف هنا أن الكرملين قد عمل على نحو تدريجي على مصادرة استقلال صناعة استطلاعات الرأي بنفس الطريقة التي فعل بها ذلك مع وسائل الإعلام مما يجعلنا أمام السؤال: "من في روسيا اليوم يستطيع أن يقف علناً وأمام أجانب كي يقيِّم زعيماً كان الحال ينتهي بأعدائه إما بالقتل أو بالسم، أو حتى رمياً بالرصاص، أو في أحسن الأحوال وراء قضبان السجون. والشيء الثاني الذي يمكن منه معرفة الإجابة على السؤال هو الانتخابات. وهنا يجب أن نراجع تجربة جاري كسباروف. فكسباروف بطل العالم السابق في الشطرنج أراد أن يرشح نفسه كرئيس ضد الرجل الذي اختاره بوتين بنفسه كي يكون خليفة له، فما الذي حدث له؟ لم توافق أي جهة في روسيا على أن تؤجر له قاعة اجتماعات عامة، كما هدد المسؤولون الحكوميون زوجته وابنته عندما حاولتا السفر إلى الخارج، أما كسباروف نفسه فقد سُجن عندما حاول المشاركة في تظاهرة سياسية، وذلك قبل أن يقرر منذ عشرة أيام فقط أن يتخلى عن المحاولة. ولكن ما الذي يجعل زعيماً يتمتع بهذه الثقة الفولاذية، وهذه الإنجازات البطولية، وهذه الشعبية الطاغية، خائفاً إلى هذا الحد من المنافسة السياسية؟ ربما سيشرح بوتين ذلك بنفسه في مأدبة توزيع الجوائز التي ستقيمها مجلة "التايم" لتكريمه باعتباره شخصية العام. ــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"