رغم أن العاهل السعودي لم يذكر سوريا بكلمة واحدة حتى نهاية رحلته الخارجية الطويلة بداية الأسبوع الحالي فهي كانت حاضرة في كل القضايا. فأولاً كان من الملفت للنظر أن تنتهي الرحلة الأوروبية الطويلة للملك عبدالله بزيارة القاهرة وحدها دون دمشق. وثانياً لم ترد أية أخبار عن طلب مصر أو السعودية دعوة سوريا لحضور مؤتمر أنابوليس الذي كان أهم الموضوعات على جدول أعمال اللقاء بين الملك والرئيس مبارك. وبينما تجاهل اللقاء بين الملك عبدالله والرئيس مبارك دعوة سوريا لمؤتمر أنابوليس كان الرئيس الفرنسي ساركوزي يضغط على الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لدعوة سوريا للمؤتمر. هذه المفارقة الشكلية لا تكاد تحير أحداً. فمن الواضح أن سوريا تفضل الدخول لقلب تفاعلات السياسة الدولية مباشرة، وأن ترفض وساطة مصر والسعودية مع الولايات المتحدة لتحسين العلاقات مع سوريا. لا يريد الرئيس بشار الأسد أن يشعر بأي ديْن للرئيس المصري أو العاهل السعودي لأسباب كثيرة. فهناك سبب تاريخي، ولا يزال حاضراً، وهو الموقف السلبي لكل من مصر والسعودية من السياسات السورية في لبنان. وترتب على هذا الموقف تدهور شديد في العلاقات المصرية- السورية والسعودية- السورية، وخاصة أن البلدين مسؤولان عن دفع سوريا للانسحاب من لبنان بدون أن تحصل على أي مقابل وهو ما تعزوه دمشق لنوع من "الخديعة الدبلوماسية" من جانب مصر والسعودية. وفيما يبدو فإن سوريا نقلت عن طريق الرئيس الفرنسي رغبتها في التعامل المباشر مع الولايات المتحدة. من الواضح أن سوريا ترى أنها تستطيع أن تصبح اللاعب الإقليمي رقم واحد فيما لو وصلت إلى صفقة مع الولايات المتحدة. فسوريا تملك أوراقاً كثيرة تهم الولايات المتحدة، بل وتكاد تقرر مستقبل الحضور والمصالح الأميركية في المنطقة. فلديها أوراق تخص أمن المشروع الاحتلالي الأميركي في العراق. ولديها أوراق تخص استقرار الحياة السياسية في لبنان. كما أن لديها أوراقا ذات قيمة في الساحة الفلسطينية. وبالطبع فلديها أوراق مهمة تخص مستقبل الصراع والتسوية مع إسرائيل. وفيما لو شاءت سوريا فهي تستطيع أن تقوم بعقد صفقات متوازية ومنفصلة أو متكاملة مع الأميركيين. ولكنها تستطيع أن تحدث انقلاباً في الموازنات الكلية في المنطقة بأن تنقل تحالفاتها من إيران إلى الولايات المتحدة والغرب. وربما لهذا السبب تشعر دمشق بأنها ليست بحاجة ولا حتى لمجرد تحسين العلاقات مع مصر والسعودية. ومع ذلك يبدو أن سوريا تبالغ في قوة ما لديها من أوراق. فهي أولاً معرضة للإهانات كما ظهر من الضربات العسكرية الإسرائيلية المتتالية. بل إن قوة سوريا قد تكون في نفس الوقت مصدراً لضعفها. فالعلاقات الاستراتيجية مع إيران كانت أحد أهم مصادر القوة السورية. ولكنها تعد في نفس الوقت مصدراً لضعفها. وربما تقع هنا الدلالة الأساسية لخطاب السيد حسن نصرالله يوم الاثنين قبل الماضي وبعد يوم واحد من نهاية زيارة الملك عبدالله للقاهرة. فالخطاب كان بالغ التشدد وأغلق الطريق أمام الأمل في مرونة كافية لحل أزمة الانتخابات الرئاسية. وكان توقيت هذا الخطاب دالاً لأنه تم بعد يومين فقط من لقاء ساركوزي وبوش، الذي عرض فيه الأول الوساطة مع سوريا ونقل رغبة سوريا في تحسين العلاقات والتوصل إلى حل وسط في لبنان. وجه السيد حسن ضربة مهمة لمحاولة دمشق التفاهم مع واشنطن سواء عن طريق الاتصال المباشر أو عبر الوساطة الفرنسية. الرسالة المتضمنة في خطابه كانت شديدة الوضوح وهي أن طهران وليست دمشق هي القادرة على حل النزاع في بيروت. وبتعبير آخر فإن سوريا ستكون قد ضعفت كثيراً فيما لو خاطرت بعلاقاتها مع إيران لقاء تحسين العلاقات مع واشنطن. جانب آخر من التفاعلات في المثلث العربي المبتور هو الموقف الفاقد للحماسة من جانب الرئيس مبارك للمبادرات السعودية. ولاشك أن جانباً مهماً من هذه المبادرات تعلق بالموضوع النووي الإيراني. وكان الملك عبدالله قد أعلن عن مبادرة للتخصيب المشترك لليورانيوم مع الإيرانيين أو التعاون الخليجي الإيراني في المجال النووي بصورة عامة. ويبدو أنه كان يستشير الأوروبيين فيما يمكن أن يمنحوه لإيران في حالة موافقتها على هذه المبادرة. والواضح أن الرئيس مبارك لم يبدِ اهتماماً يذكر بالمبادرات السعودية نحو إيران. وثمة نظريتان كبيرتان لفهم هذا الموقف. الأولى أن الرئيس مبارك لا يريد أن يمنح إيران مزايا كبيرة تضاعف نفوذها الإقليمي وهو ما يراه على حساب مصر. والثانية أن الرئيس مبارك الذي أخذ في تحسين علاقاته مع إيران، وإن بصورة تدرجية، لا يريد لأميركا أن تحقق نجاحاً كبيراً في المنطقة من خلال الوساطة والعلاقات السعودية- الإيرانية. وبتعبير آخر يبدو أن الرئيس مبارك يريد استمرار الضغوط التي تفشل السياسات الأميركية في المنطقة، حتى لا تتوحش الولايات المتحدة أو يحقق "المحافظون الجدد" نجاحات تقود إلى استمرار هيمنتهم في الولايات المتحدة. وإن صدق التفسير الأخير فإنه إن فشلت مبادرة الملك عبدالله نحو إيران فإن المنطقة ككل قد تدخل إلى جحيم أزمات وربما حروب جديدة. وعلى أي حال فإنه حتى لو لم تقع حروب حول الملف النووي الإيراني فلا السعودية ولا مصر ستحقق إنجازاً دبلوماسياً يذكر. ومن نافل القول أيضاً إن السياسة السورية ستظل مضغوطة داخل الصندوق كما يقول المجاز الدبلوماسي. يقودنا ذلك كله إلى إحدى أهم نتائج البحث في السياسة الإقليمية. إن بتر العلاقة التحالفية، أو على الأقل التنسيقية، بين أضلاع المثلث المصري السوري السعودي هو العلة الأهم للفشل المتبادل والمتوازي للدول للثلاث. ويمكننا أن نتخيل انقلاب الموقف فيما لو عادت العلاقة التحالفية أو التناسقية بين الأطراف الثلاثة في أكثر من سيناريو واحد. أكثر السيناريوهات ثورية هو أن يقوم هذا التحالف الثلاثي بعقد تفاهم استراتيجي مع إيران وفي مواجهة السياسة الأميركية. والواقع أن هذا السيناريو يمكن أن يحدث انقلاباً تاماً في الأوضاع والتوازنات الإقليمية، بل وأن يدفع الولايات المتحدة إلى خارج المنطقة كلية. ولأن هذا السيناريو مستبعد لأنه يشتمل على منطلقات ونتائج ثورية فقد يكفي أن تطبق الدول الثلاث ما يمكن تسميه سيناريو الصفقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. فلن يكون المطلوب هو إخراج الولايات المتحدة من المنطقة أو بناء نظام إقليمي مستقل تماماً وإنما بناء نظام يقوم على توازن المصالح. وعندئذ يمكن عقد صفقة جيدة للعرب في سياق حل سلمي للصراع مع إسرائيل. ويمكن في نفس الوقت التوصل إلى حل متوازن حول العراق ولبنان. وفيما لو لم تكن لدى السعودية ومصر الرغبة في المخاطرة ببناء إطار سياسي إقليمي جديد بالارتباط مع إيران نظراً لارتباطهما بالولايات المتحدة، فإن الاقتراب الجماعي من إيران ولو بصورة محسوبة يمكن أن يقود إلى نتائج أفضل مما هو ممكن في الظروف الحالية. ويكفي أن نشير إلى إمكانية أن يقوم العرب بالدور المباشر في حماية الأمن الإقليمي دون حاجة لتواجد عسكري أميركي مباشر. فالنتيجة ستكون مختلفة تماماً. فمن ناحية يقل عنصر المخاطرة والاستفزاز لقطاع كبير من المواطنين العرب، وهو ما يقلل من عنصر المخاطرة الأمنية وخاصة في بلد مثل العراق. ومن ناحية ثانية سيضطر الأميركيون للاعتماد على الدول العربية الحليفة في الدفاع عن مصالحهم وهو ما يحتم عليهم احترام المصالح العربية الجوهرية. وهذا هو ما كان أساساً للإعلان الذي أبرمته الدول الخليجية الست مع مصر وسوريا باسم "إعلان دمشق" عام 1991. وفشل الإعلان قاد مع الوقت لبتر العلاقة في هذا المثلث الحيوي, ومن ثم فشل وتأزم السياسات العربية عموماً وضعفها المشترك!