قامت إدارة بوش بتحرير العراقيين منذ 10 أشهر، لكنها على رغم ذلك لا تضع ثقتها فيهم حتى الآن، بل إنها لا تثق حتى في العراقيين الخمسة والعشرين الذين اختارتهم ليكونوا أعضاء في مجلس الحكم العراقي وليساعدوا في إدارة بلدهم أثناء المرحلة الانتقالية إلى الحرّية. وقد كافأت واشنطن هؤلاء باحتقارهم وتشويه سمعتهم لقاء تعاونهم معها في هذا الشأن. فهي تدأب على التقليل من شأن هؤلاء والاستخفاف بهم وهم حلفاء أميركا المختارون وأصدقاؤها الطبيعيون في العراق، الأمر الذي يطلق إشارة مخيفة في أرجاء الشرق الأوسط الذي أعلن الرئيس بوش أنه سيكون مركزاً لاستراتيجيته المتقدمة المعنية بالديمقراطية.
ولذلك لا يمكن للمنشق السعودي أو المصري، الذي يغريه انتهاز الفرصة السانحة لكي يؤيد رؤية بوش، أن يستنتج إلاّ وجود قدر ضئيل من الارتياح أو التشجيع عندما يرى المعاملة التي يلقاها المغامرون العراقيون الذين قبلوا المخاطرة والذين قيل لهم إنهم غير مهيئين لإجراء الانتخابات أو لممارسة قيادة بلادهم باستقلالية.
وعلى رغم جرأته في تدمير ديكتاتورية صدّام حسين البغيضة، كان الصف الأعلى من إدارة بوش جباناً في استحداثه للبنى السياسية الضرورية لكي تحل في مكان الطاغية المخلوع. وقد ارتكبت واشنطن خطأً سياسياً بمحاولتها ضرب الشخصيات القديمة دون الاستعانة بأحد، أي حين علّقت على الأرقام والمعادلات الرياضية المعنية بتمثيل المجموعات السكانية العراقية في الحكومة أهمية أكبر من أهمية تشجيع الزعماء المحليين والمؤسسات المحلية المستعدة للاضطلاع بمهمة الحكم الديمقراطي.
وقد بدأت المشكلات في مرحلة الاحتلال الأولى الحاسمة حين قذفت الإدارة الأميركية إلى العلن وعلى نحو مفاجئ خططاً لتنصيب ائتلاف يضم الزعماء العراقيين الذين تم تجميعهم بعناية على مدى شهور من المداولات المتأنية. لا بل إن واشنطن عمدت إلى سحب الرجل الذي رسم تلك الخطط، وهو جي غارنر، وعينت في مكانه بول بريمر كرئيس لسلطة الائتلاف المؤقتة في العراق.
وقام بريمر بتوسيع القيادة العراقية، المؤلفة من تسعة أشخاص حسب خطة غارنر، لتتحول إلى مجلس الحكم الحالي الذي يضم 25 عضواً. وقام بريمر أيضاً بفرض قيود على سلطة وصلاحيات مجلس الحكم، وكان يهدد الأعضاء كلما أثاروا استياءه بأنه سيحل المجلس وسيقوم بتعيين مجلس جديد.
وفي الأسبوع الماضي، اضطر بريمر إلى التخلي عن خطة الانتخابات التي وضعها لاختيار قيادة مؤقتة تحل مكان مجلس الحكم، وذلك بعد أن واجهت الخطة معارضة عنيدة من جهة الأغلبية الشيعية. ولم يطرأ تغيير على الموعد النهائي المقرر لنقل السيادة إلى أيدي العراقيين، لكن بول بريمر والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان لم يكن في وسعهما أن يقولا شيئاً حول نوع الحكومة التي ستتولى المسؤولية بعد ذلك التاريخ، ولا أن يطلقا التخمينات حول طريقة اختيار تلك الحكومة.
وفي ذلك دخول لعنصر ضارّ إلى ساحة هذه اللعبة في هذا الوقت المتأخر، فهو يعبّر عن تجاهل لما هو واضح للعيان، أي للمجموعة الأساسية المؤلفة من الزعماء العراقيين الذين انخرط معظمهم في مقاومة صدّام حسين من المنفى أو من المناطق الكردية التي ظلت تحظى بالحماية من القوى الجوية الأميركية منذ ما بعد حرب الخليج الأولى عام 1991، وهي أيضاً المجموعة التي فرضت على الآخرين الاعتراف بأهميتها على مدى سنوات العقد الماضي. وقد أظهر هؤلاء دليلاً يؤكد قدرتهم على العمل معاً وعلى نشر القيم الديمقراطية.
وفي سلسلة المؤتمرات المتعاقبة أثناء فترة الحشد للحرب العراقية وفي اجتماعات مجلس الحكم منذ الاحتلال، تناوب على قيادة المجلس كل من مسعود البرزاني وجلال الطالباني وأحمد الجلبي وعبد العزيز الحكيم وغيرهم. ومن المؤكد أن توماس جيفرسون ليس موجوداً بينهم. لكن انتظار وصول جيفرسون عراقي وبروزه من بين أنقاض بغداد أمر من شأنه أن يدين الولايات المتحدة بالاحتلال الأبدي.
ويضاف إلى ذلك أن تجاوز هذه المجموعة القيادية من شأنه أن يقوّض الشرعية التاريخية للمعارضة العراقية التي أرادت إدارة بوش دعمها وتأييدها بإطلاق عملية غزو العراق في شهر مارس من العام الماضي. فليس هناك طائل من توسيع عضوية مجلس الحكم في سعي شكلي تجميلي إلى تحقيق التوازن الحسابي في مسألة تمثيل فئات الشعب العراقي، إذ أن في ذلك ممارسة تؤدي إلى إحداث الضعف في هذا الوقت المتأخر.
ومن شأن حلّ مجلس الحكم العراقي الحالي أو تحويله بطريقة سحرية في 30 يونيو أن يجعل إدارة بوش عرضة لمواقف أكثر منتقديها تقلباً وانفعالاً، وهم الذين يعتقدون أن مجرد التعاون مع الولايات المتحدة قد أدى إلى إفساد أعضاء مجلس الحكم العراقي. أما مضمون حجة هؤلاء فيقول إنه لا يمكن لأي عراقي متوافق ومنسجم مع القيم الديمقراطية أن يكون زعيماً عربياً جديراً بالثقة.
فأحمد الجلبي، الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة الأميركية وعمد إلى التأثير في الإدارات الأميركية الجمهورية وحشد تأييدها للتدخل في العراق، صار أشبه بم