هل تفاجأ إذا ما علمت بإعلان "المجلس القومي للبحوث" التابع لـ"الأكاديمية القومية الأميركية للعلوم" – وهو من أرفع المؤسسات العلمية على مستوى العالم- عن طفرة علمية جديدة تضاهي اكتشاف البنسلين وفك الشفرة الثنائية للحمض النووي وتطوير جهاز الكمبيوتر... كأمثلة على أعظم الفتوحات العلمية التي حققتها البشرية؟ ثم ماذا أنت قائل إذا ما تضمن هذا التقرير العلمي الذي سأحدثك عنه، ما يفيد أن من شأن الطفرة العلمية الجديدة إنقاذ حياة الملايين إلى جانب تخفيفها لمعاناة ملايين آخرين؟ لن أتعجب إن كان ردك على هذين السؤالين بعدم السماع بهذا التقرير من حيث الأصل، لأنه قلما حظي بالاهتمام الصحفي اللائق به. تحمل الدراسة المعنية التي لخصها هذا التقرير العلمي المدوي عنوان "فحص السميات في القرن الحادي والعشرين: رؤية واستراتيجية" وقد تم نشرها في يونيو الماضي، وهي دراسة تستحق الاهتمام والوعي بمدى أهميتها. في عصرنا الذي تتعرض فيه البشرية يومياً لكميات متزايدة من الكيماويات الصناعية في البيئة المحيطة، يفتح هذا التقرير العلمي الجديد الصادر عن "المجلس القومي للبحوث" الأميركي نافذة جديدة لحماية صحة هؤلاء الملايين. والسبب أنه جاء يحمل في طياته طفرات علمية ثورية جديدة في مجال فحص السميات وتحليل الكيفية التي تؤثر بها آلاف المنتجات الكيماوية التجارية على صحة البشر يومياً. ووفقاً لهذه الدراسة فإن التقدم الذي أحرز في عدة مجالات حديثة؛ مثل جينومات السميات وبيولوجيا النظم وتغير الوظائف الجينية والنمذجة السمية... ستحدث تغيراً جوهرياً في فحص السميات، بحيث تحيلها من نظام قائم على الفحص الحيواني بالدرجة الأولى إلى نظام قائم على الوسائل الخارجية، مما يساعد على تقييم التغيرات البيولوجية، بواسطة استخدام الخلايا والخطوط الخليوية. وقد بادرت بعض الشركات والمعامل بالفعل إلى تطوير أقسام خصصتها لاستخدام الخلايا البشرية في أنابيب مختبراتها، مع العلم أن هذه الخلايا تؤخذ من البشرة أو العين أو الفم أو من خلف الرقبة أو حتى من نظام المناعة في الجسم البشري... ثم يتم إخضاعها لاختبار السميات. كما تلجأ بعض الشركات الأكثر تطوراً لاستخدام برامج المحاكاة الحاسوبية التي تجري اختباراً افتراضياً للسميات في الخلايا البشرية، بغرض تقدير مدى حجم الخطر الصحي للسميات على صحة البشر. وفي العام الماضي وحده، أنفقت تلك الشركات ما يربو على 700 مليون دولار على إجراءات الاختبارات البديلة. وكما يقول العلماء فإن الفوائد التي تحققها هذه التقنيات البديلة ذات شقين. أولهما أنها تمكن المعامل من تقليل كثافة الاختبارات السمية التي تجرى على الحيوانات سنوياً، بكل ما تثيره هذه الاختبارات من قلق وتساؤل في أوساط البيئيين والمدافعين عن حقوق الحيوان. أما ثانيهما فيتمثل في تطوير نظام أكثر دقة في قياس المخاطر المحتملة لتراكم الكيماويات والسميات على صحة البشر، عن طريق استخدام أحدث التقنيات البيولوجية والحاسوبية. لكن يشار هنا إلى أن قلق العلماء أنفسهم قد تزايد كثيراً خلال السنوات القليلة الماضية، بقدر ما تزايدت شكوكهم في مدى قيمة حقن أجسام الحيوانات بجرعات كيماوية زائدة، بقصد اختبار المخاطر التي تحدثها هذه الكيماويات والسميات على صحة البشر. أما التقرير المذكور آنفاً فقد سعى إلى القول إن ملايين الحيوانات تتعرض سنوياً لمعاناة معملية لا ضرورة لها، وإن حياة الكثير منها تتعرض للخطر، مع العلم بلا جدوى هذه الاختبارات في توفير المعلومات المطلوبة عن التأثير المحتمل للسميات نفسها على صحة البشر. وكما سبق القول فقد ظلت جمعيات المعارضين لإجراء الاختبارات العلمية على الحيوانات، وكذلك منظمات الدفاع عن حقوق الحيوان، تثير هذه الحجج والاعتراضات. إلا أن احتجاجاتهم لم تكن لتقابل إلا بهزء وسخرية الهيئات العلمية والجمعيات الطبية وأصحاب الصناعات المعملية، وعادة ما يتردد اتهام المحتجين بمعاداة التقدم وبإعطاء الأولوية للحيوان بدلاً من الإنسان. أما اليوم فقد توصلت المؤسسات العلمية إلى ذات الاستنتاج الذي سبقه إليها المدافعون عن حقوق الحيوان. ويتلخص هذا الاستنتاج في الإقرار العلني بسوء العلم القائم على إجراء التجارب السمية على الحيوانات. وليس ذلك فحسب، بل أشار مؤلفو التقرير الحالي الصادر عن "المجلس القومي الأميركي للبحوث" إلى ضخامة تكلفة الاختبارات المعملية الحيوانية تلك، إلى جانب استهلاكها للزمن ولعدد كبير من الحيوانات. وبما أن الأمر كذلك، فلم الاستمرار في إجراء اختبارات سمية بكل هذه السلبيات والعيوب، بل ويؤدي إلى كل هذا الكم من نفوق الحيوانات التي تتعرض للاختبار؟! وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال المهم، فلنقل ابتداء أن هناك الكثير جداً من المعامل والشركات التي تجني أرباحاً طائلة من الاختبارات السمية الحيوانية هذه، وهي آخر من يقدم على التخلي عن نشاطها الاستثماري المذكور. والحجة التي ظلت تستند اليها الشركات والمعامل المستفيدة هي أن الاختبارات السمية الحيوانية هي الشيء الوحيد المتاح للبشرية كي تحصن نفسها ضد السميات الكيماوية، وبالتالي فإن ممارسة هذا المتاح أفضل بكثير من رفع اليد وتجنب فعل أي شيء في هذا المجال. لكن مما يحسب إيجاباً للتقرير العلمي المذكور، أنه يدحض هذه الحجة تماماً ويضعها على الرف من الآن فصاعداً. فبفضل تقنيات الاختبار السمي الحديثة التي جرى تطويرها مؤخراً، أصبح ممكناً للمرة الأولى على الإطلاق توفير معلومات أكثر دقة عن حجم المخاطر الناجمة عن تعرض البشر للسميات الكيماوية، دون أدنى حاجة للاستمرار في ممارسة تلك الأساليب الوحشية المستخدمة في الاختبارات الحيوانية. وكما يقول المؤلف الرئيسي للتقرير المذكور، فإنه سوف يصبح ممكناً بفضل التقنيات الحديثة هذه، الحد كثيراً من الاختبارات الحيوانية، بل يتوقع لهذه الاختبارات أن تتوقف كلياً بمرور السنوات. واستجابة لتزايد قلق مستهلكي اللحوم الحيوانية، بسبب استمرار الاختبارات السمية، اضطرت عشرات الشركات العالمية إلى الانضمام إلى حلبة التقنيات المختبرية الحديثة للسميات. وفي الوقت الذي تعد فيه هذه التقنيات الحديثة بإنقاذ حياة الملايين من الحيوانات، فهي تحمل معها وعد إنقاذ حياة الملايين من البشر أيضاً. ذلك أن سرعة ودقة وانخفاض تكلفة إجراء الاختبارات السمية على الخلايا البشرية بدلاً من الحيوانية، هي حزمة من العوامل والمحفزات على سرعة تقدير الأثر الصحي السلبي للعديد من السميات الكيماوية على البشر، فضلاً عن الإسهام في تطوير عقاقير طبية ولقاحات جديدة من شأنها توفير قدر أكبر من السلامة والعافية للبشر. إيجازاً يمكن القول إن في هذه التقنيات المختبرية الحديثة ما يعد بالخير والأمان لنا وللحيوانات معاً. وقد وافق صدور هذا التقرير العلمي الجديد وقته تماماً، متزامناً مع إجازة الاتحاد الأوروبي هذا العام لتشريع "ريتش" الذي يفرض على الشركات الأوروبية اختبار ما يزيد على 30 ألف نوع من السميات الموجودة سلفاً في البيئة المحيطة بالإنسان، بغرض تقدير مدى الخطر الناجم عنها على صحة البشر. بيد أنه يلزم الاتحاد الأوروبي تسريع الخطى في تنفيذ برنامجه هذا، عن طريق البدء باستخدام التقنيات المختبرية الحديثة منذ الوهلة الأولى لتطبيق البرنامج، وإلا تعرضت حياة نحو 4 ملايين حيوان لمعاناة لا حد لها إلى جانب كثير منها سيموت جراء إخضاعه للاختبارات السمية الكيماوية. وما لم يخط الاتحاد الأوروبي هذه الخطوة، ويصبح قدوة عالمية تحتذى في هذا المجال، فسوف يكون قد هزم مبادرته التشريعية، كما يكون أيضاً قد هزم الطفرة العلمية الكبيرة التي أعلن عنها "المجلس القومي الأميركي للبحوث".