أوردنا في المقال السابق جملة من الروايات التي ذكرها المفسرون حول "أسباب نزول آيات تحريم الخمر". وقد حرصنا هناك على إيرادها دون تعليق، منبهين إلى أننا سنعود إليها لإلقاء نظرة فاحصة عليها، الشيء الذي سنفعله هذا المقال. سنبدأ بذكر رواية تستغني عنها جميعاً. فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا" (البقرة 219). ولما قرئت عليه هذه الآية، فقال: "اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً"، (يقصد حكماً واضحاً جازماً، إما بالتحليل وإما بالتحريم)، فنزل قوله تعالى: "يا أَيُّها الَّذينَ آَمَنوا لا تَقرَبوا الصَلاةَ وَأَنتُم سُكارى" (النساء 43)، ولما قرئت عليه فقال: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً"، فنزلت هذه الآية "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ..." (المائدة 90)، فدُعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ القارئ: "فَهَل أَنتُم مُّنتَهونَ"؟ قال عمر: انتهينا". ما يلفت الانتباه في هذه الرواية أنها تجعل الروايات التي أوردناها في المقال السابق غير ذات موضوع. ومع ذلك فهذه الرواية كسابقاتها تقيم تطابقاً زمنياً ومنطقياً بين ما تذكره كـ"أسباب نزول"، وبين الترتيب الذي وردت به الآيات التي تحدثت عن الخمر. ومثل هذا التطابق يثير بعض الشكوك، على الأقل من حيث إن منطق الواقع لا يتماشى دائماً مع منطق العقل. أما إقحام ردود فعل الذين طلبوا السماح لهم بمواصلة شربها في المرة الأولى من أجل النفع الذي فيها، ليطلبوا في المرة الثانية السماح لهم بشربها قبل اقتراب موعد الصلوات، وليثيروا في المرة الثالثة منزلة من مات مؤمناً وكان يشربها قبل تحريمها، ثم قيام بعضهم، في رواية أخرى، بربط جميع مراحل تحريم الخمر بردود فعل عمر بن الخطاب... أقول إن ذلك التطابق المزعُوم، يشكل اعتداءً على بنية الآيات التي كانت ردود الفعل المذكورة سبباً في نزولها، حسب زعمهم، فضلاً عن تمزيق السياق العام الذي تندرج تحته تلك الآيات. إن الترتيب الذي وردت عليه تلك الردود لا يستقيم إلا إذا كانت تلك الآيات تنتمي جميعاً إلى "لحظة" واحدة. هذا في حين أن سورة البقرة التي تضم الآية الأولى نزلت ما بين السنة الأولى والثانية. وما ذكروه حول سبب نزول تلك الآية من كونها نزلت بعد الهجرة، وأن السؤال عن حكم الخمر كان نتيجة ملاحظة تفشي شرب الخمر بالمدينة، يوحي بأن تلك الآية نزلت في أوائل الهجرة، في السنة الثالثة على أكبر تقدير. أما سورة النساء التي تضم الآية الثانية (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فقد نزلت بعد ذلك بسنوات، ما بين الخامسة والسابعة. وأما سورة المائدة فهي من أواخر السور، وهناك من يعتبرها آخر ما نزل. لكن المرجَّح أنها نزلت حوالي السنة الثامنة. وإذا نحن وضعنا بين قوسين روايات "أسباب النزول" واتجهنا إلى الآيات التي تتعلق بالخمر وسياقاتها فإننا سنلاحظ ما يلي: 1- وردت الآية الأولى ضمن جملة أسئلة طرحت على النبي عليه الصلاة والسلام بصورة متتابعة وفي سياق واحد فجاء الجواب على كل منها في حينه، وبصيغة "قلْ". قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ..."، "وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ قُلِ الْعَفْوَ..."، "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى، قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ..."، "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ، قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ..." (البقرة 222)، يلي ذلك حكم الأيْمان (القسَم) والطلاق والرضاعة... الخ. وهذه الآيات التي وردت متتابعة تنتمي إلى سياق عام واحد موضوعه التشريع في عدة أمور، يبتدئ من قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ..." (البقرة 168) إلى آيات "يسألونك... قل" والتي تليها. إلى قوله تعالى: "كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (242). وواضح أن معنى آياته هنا: شريعته. وهكذا نرى أن ما ذكر من أسباب لنزول قوله تعالى : "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ"، لا يتوافق مع السياق من حيث إن "الأسباب" لا يكون لها تأثير ولا فائدة إلا إذا عزلنا هذه الآية عن سياقها واعتبرناها مستقلة بنفسها. أما إذا اعتبرنا السياق واكتفينا به فإن المعنى سيكون أوضح، وخالياً من أي تشويش. والشيء نفسه يمكن قوله بشأن الآية الثانية. 2- ذلك أن جميع الروايات التي اطلعنا عليها والتي تقدم "أسباباً" لنزول قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ..."، لا تستقيم إلا إذا سلخنا هذا المقطع من جملة الآية التي يقع ضمنها، واعتبرناه مستقلاً ومنفصلاً عما بعده. ذلك أن نص الآية كاملة هو: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً" (النساء 43). وواضح أن سياق هذه الآية متصل متلاحم وأنه لا يمكن عزل "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ..."، وإلا استحال فهم ما بعدها. إن شرح معنى الآية كاملة يقتضي عبارة واحدة متصلة كقولنا: يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوا الصلاة وأنتم على جنابة ولا تقربوا المصلى (المسجد) حتى تغتسلوا إلا إذا كنتم مارِّين به مجرد مرور، وفي حالة ما إذا كان بكم مرض يتضرر بالماء (كالجرح)، أو كنتم على سفر، أو جاء أحدكم من الغائط، أو جامعتم زوجاتكم، ولم تجدوا الماء لتغتسلوا، فتيمموا حجراً نظيفاً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ... ثم صلُّوا. وواضح أنه لا مكان هنا لروايات أسباب النزول المذكورة. 3- أما الآية الثالثة، وهي قوله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة 90). فهي تقع، هي الأخرى، ضمن سياق تستقل به عن "أسباب النزول" التي رويت في شأنها، وهو سياق تشريعي واحد وطويل يبدأ بقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (المائدة 87)، يلي ذلك ما يتعلق بالأيْمان (جمع يمين) والكفارة الواجبة فيها، ثم الحكم على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها "رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" يجب اجتنابه، خصوصاً والخمر والميسر يبعثان على الشجار والعداوة والبغضاء ويصرفان عن الصلاة، يلي ذلك "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا" (المائدة 93). وهذا استثناء يخص من شرِبها من المسلمين قبل تحريمها. وهذا النوع من الاستثناء يعم جميع الأحكام التي وردت في السياق العام الذي تندرج تحته آية تحريم الخمر والذي يبدأ من الآية 87 إلى آخر السورة (آية 120)، ويشتمل على عدة أحكام نتبين في كل حكم منها جانبين: الأول التحليل أو التحريم أو ما في معناهما، والثاني استثناء أو استدراك وتوضيح، تماماً كما هو الحال في الخمر: تحريمها ثم مباشرة بيان حكم من كان يشربها من المؤمنين ومات قبل التحريم، الشيء الذي لا يدع مجالاً للبس ولا يترك زماناً لردود فعل ولا لطرح أسئلة من النوع الذي ذكرته روايات "أسباب النزول". إن هذا السياق الذي حددناه كإطار للآية التي أمرت باجتناب الخمر والميسر والأزلام... الخ، والذي قلنا إنه يبدأ بالآية 87، أي بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" ، وينتهي مع انتهاء السورة، يدل على أن المسلمين، أو بعضهم، كانوا يحرمون على أنفسهم "الطيبات" كالزينة ولذات الأكل والشرب والجماع مما لم يحرمه الله. وهذا يدل على أن آيات تحريم الخمر جزء من كل، وبالتالي فما حكي من روايات كـ"أسباب لنزولها" لا تستقيم معها. يبقى بعد ذلك تحديد فائدة روايات أسباب النزول عموماً.