جاء مصطلح "الفوضى الخلاقة" بمثابة دعوة للعودة إلى موضوع عريق في تاريخه ضمن التاريخ العربي الإسلامي. أما مرجعية هذا الموضوع فتعود- في شقٍّ أول منه- إلى الفكر السياسي الإسلامي، لكن شقه الثاني يجد مرجعيته في الفكر العولمي. وإيضاحاً لذلك، نلاحظ أن بعض التاريخ السياسي الإسلامي، كما عبَّر عنه المأثور الإسلامي عموماً، جاء بمثابة تأكيد على أفضلية "الجور في الحكم" على فساد الحكم وفسق الحاكم، إذا اقتضى الأمر في الظروف المعنية المحددة. وقد ظهر مثل هذا الحكم في سياق الأزمات الكبرى، التي كانت تهدد "وحدة الأمة" ومن طرف آخر، أخذ التدفق العولمي الأميركي الراهن بخاصة، يطرح سؤالاً مركباً أمام فئات من السياسيين والمفكرين والمصلحين وغيرهم مفاده: ما الذي يعمله الحكام في المرحلة الراهنة، حين يلاحظون ذلك التدفق وخطره على الشعوب؟ هل يلجأون إلى "الحزم" في الأمر واتخاذ القرارات اللازمة، دون العودة إلى دوائر واسعة من الناس؟ وتتجلى هذه الإشكالية في "سؤال الديمقراطية" في المجتمعات العربية الراهنة. ويمكن أو لعل ذلك يظهر في السؤال التالي، الذي يراه البعض من الحكام تعجيزياً وفاسداً: هل مهماتنا نحن رؤوس النظم العربية في مرحلتنا هذه التي تتعاظم فيها الاختراقات الخارجية والاضطرابات الداخلية، أن نطلق الديمقراطية على غير ما تطالب به مجموعات كثيرة أو قليلة في المجتمعات المذكورة؟ أو: ألا يمكن أن يوجد إطلاق الديمقراطية، الآن اضطراباً وخللاً في أوساط الناس الذين ما زالوا دون "سن الرشد" حتى لو كان أولئك الحكام يقرون بالاستبداد والفوضى والفساد، مع الحفاظ على وحدة المجتمع ورفض تفكيكه؟ إن موازنة بين الحكم الجائر والفوضى تقوم على أساس منطقي وأخلاقي فاسد، فلماذا تخيَّر الشعوب العربية بين الحكم الجائر الاستبدادي مع الحفاظ على وحدة المجتمع (كما يُقال)، وبين الفوضى والاضطراب، إذا حاول هذا الفريق أو ذاك من النظم العربية تطبيق مشروع إصلاحي؟ لقد سبق وقلنا في كتابات سابقة بما سمَّيناه "جدلية الداخل والخارج"، أما الدلالة الأولية لهذه الأخيرة فتقوم على أن الطرفين المذكورين فيها لا يمكن النظر للعلاقة بينهما إلا على أساس التكامل والتجادل مع إلحاح على أولوية الداخل، وفي هذه الحال يغدو غير صائب أن نُفرط بالاهتمام بواحد منهما، بذريعة أن ثانيهما يقتضي ذلك. وبتعبير مُدقق، لا يصح القول بالاستهانة بالخارج العالمي الراهن (التحولات الهائلة التي تجتاح الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا وأفريقيا وأستراليا وأميركا اللاتينية)، بحجة أننا أقوياء في داخلنا العربي. فهذا افتراض زائف وخطر، يعرّض هذا الداخل لاستباحة منهجية مطردة. وبالطبع، لا نتصور أن عاقلاً في العالم العربي يفكر على هذا النحو التدميري. لكن ما يوجد، من طرف آخر، ضمن العالم المذكور وخصوصاً على صعيد أصحاب القرار، يتأسس على الفكرة الأيديولوجية التالية: نحن نعلم كم هنالك من تقصير وفساد وفقر وإفقار في مجتمعاتنا، وكم نحن بحاجة إلى إعادة النظر في مؤسساتنا المدمرة بتأثير أصحاب النفوذ، ولكن - يتابع هؤلاء- لا يجوز غض النظر عن أن مهماتنا الوطنية العامة التي تتمثل في مواجهة الاستعمار والإمبريالية (مثل تحرير الجولان وعربستان، والاسكندرونة والجنوب اللبناني، وغيره)، هي الأمور التي علينا أن نركز عليها. وبكلمة: التحرر الوطني والقومي أولاً، وبعده يأتي دور الداخل عبر إصلاح ديمقراطي اقتصادي وسياسي وقضائي وجامعي الخ. وقد أتى البروفيسور "برنارد لويس" في كتابه "الإسلام والغرب" على هذه الإشكالية، التي قد نصفها بكونها "خبيثة" بالمعنى المنهجي والسياسي، حين تحدث عنها بالصيغة التالية المأخوذة من الفكر الإسلامي، في إحدى قراءاته "يمكن للعالم أن يعيش في ظل الاستبداد، لكنه لا يستطيع العيش بالفوضى". والأستاذ المذكور يتابع، وفق القراءة الاسلامية الشريعية المذكورة: "فما دام الحاكم يؤمّن النظام... فلابد من إطاعته طاعة هي واجب ديني". لكن تعريف الأداء المطلوب من الحاكم في ظل العديد من الأنظمة، إن لم يكن كلها، في الحدود الدنيا، أما واجبات الرعيّة فكانت دوماً تُنفَّذ بحزم". انظر الكتاب المذكور مترجماً إلى العربية عام 2007. هكذا يتضح أن وضع الشعوب العربية أمام "ثنائية الحاكم الجائر والفوضى" إنما هما خياران اثنان كلاهما مرّ أولاً، ومن طرف آخر، يُفصِح عن نفسه خطأ آخر يصل إلى مستوى التحول إلى خطر، إنْ أخذ به. أما هذا فيقوم على النظر إلى الجور (الديكتاتورية في النظم الأمنية) على أنه بديل عن الفوضى ورادعٌ لها. ذلك لأن الجور يستلّ من الناس كراماتهم ومبادراتهم ومشاركاتهم المجتمعية، ليحولهم إلى عبيد أو إلى ما يقترب من ذلك، وفي هذا فتحُ الوطن أمام الغزاة يستبيحونه، فالجور (الاستبداد) مَجْلَبَةٌ للغزاة.