كم نحن بحاجة إلى استعادة ابن خلدون هذه الأيام، ولاسيما "مقدمته" التي هي عبارة عن بيان متكامل لما نسميه اليوم بعلم الاجتماع ودراسة أحوال الشعوب ومصائر الدول والممالك. يقول في الصفحة 290 من المقدمة: "إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة.. والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى، عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتقاد على الدولة والخروج عليها.. لأن كل عصبية من تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة". ويتابع الفيلسوف العربي- العالمي الكبير في الصفحة 292 من المقدمة قائلاً: ".. وبعكس هذا أيضاً، الأوطان الخالية من العصبيات، يسهل تمهيد الدولة فيها، ويكون سلطانها وازعاً لقلة الهرج والانتفاض، ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية كما هو الشأن في مصر والشام لهذا العهد". وابن خلدون التوحيدي النزعة، إنما كان يستهدف بكلامه هذا، الأحوال الزؤام التي كان عليها مجتمع أفريقيا الشمالية في القرن الرابع عشر، حيث عاش فيلسوفنا وشهد بأم العين ولب العقل ما كان يحدث، فقد استشرت في ذاك المجتمع إبان تلك المرحلة التاريخية عصبيات وصراعات تناحرية على الملك والسلطان، ولاسيما لدى البربر والمجموعات السكانية الأخرى التي استعربت. وقد نتج عن ذلك كله أن تفتت العلاقات الأهلية الكبرى وتهدد مصير العرب ولاح نذير زوالهم... تماماً كما هي حالنا البائسة على المستوى العربي اليوم، حيث نجد الخلافات وكأنها باتت تقليداً راسخاً وهامداً لا يتحرك إلا لمزيد من الشقة والفرقة والتنابذ. نعم فممنوع على العرب تحقيق حتى الحد الأدنى من التضامن السياسي والاقتصادي. ممنوع عليهم حتى النظر في الخطر الذي يتهدد كياناتهم السياسية الحديثة نفسها. بالله عليكم ما الذي تحرك على تلكم الحدود العربية المتبادلة الإغلاق.. مشرقاً ومغرباً؟! لا شيء طبعاً.. بينما العدو الإسرائيلي يوحد صفوفه وقواه، ويزيد من منعته في صيغ تجسيدية قاطعة.. وأبلغ دليل على ما نقوله، هذه الحكومة الدموية التي يتزعمها أخطر إرهابي دولي عرفه الشرق الأوسط والعالم: أرييل شارون والذي ما انفك يعلن على الملأ أجمع أنه لا حل في المنطقة إلا وفق الشروط الصهيونية المملاة على العرب جميعاً.. وأن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وأنه لا تبديل في المستوطنات التي عليها أن تكون سداً ديمغرافياً يعزل هذا الجزء عن ذاك من الدويلة الفلسطينية... الخ. اجتمع العرب.. لم يجتمعوا.. سيجتمعون.. الأمور كلها واحدة في نتائجها: نصوص كلامية لا تخلو من التنظير أو التطريز الحماسي المهوَّم فوق الحقائق.. والمنفصِم تماماً عن إنجازات الدم الفلسطيني، والذي وحده حتى الآن تحسب له المعادلات الإسرائيلية الأميركية في المنطقة كل الحسابات الجدية، وتراهن على عنصر الوقت لوأد إنجازاته وطمسها في مكانها هكذا دونما رجعة. إن مواجهة إسرائيل فعلياً.. ودعم المقاومة الفلسطينية والعراقية واللبنانية تبدأ من اللحظة التي يكسر فيها هذا النظام العربي حدوده مع ذاك النظام.. كسراً متبادلاً يؤدي فعلاً إلى قيام نظام عربي متكامل، متضامن ولو على الحد الأدنى من التوافقات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. ولا نقول جديداً إن قلنا إن إسرائيل هي حالة عربية قبل أن تكون حالة قائمة بذاتها. فمتى تخلص العرب من حالة التشرذم والتفتت، ليس على مستوى الأقطار والدول فحسب، بل على مستوى البنى الاجتماعية والعائلية والمعتقدية، تبدأ إسرائيل باستشعار الخطر عليها، وبوعي أن كيانها الاصطناعي المركب مهما طال أمده، فلن يعيش.. ولن يكتب له الأزل كما يتقول بذلك جهابذة الصهاينة الأسطوريون. إن الآراء التي أعطاها ابن خلدون قامت عن تجربة ناضجة ورصد دقيق ووعي نفاّذ. ولا عجب أن نجد كثيراً من علماء السياسة والاجتماع والتاريخ والاقتصاد وحتى الحرب اليوم، يدينون له بالريادة والأسبقية في وصف حالات المجتمع ومعاينة أنوائه وأدوائه. ألا متى يقرأ سياسيونا ابن خلدون في العمق ويعملون، ولو بالقليل، بنصائحه؟