في نفس اللحظة تقريباً تدور في مصر والمغرب وعدة دول عربية مناظرة، أو في الحقيقة معركة، حول الصحافة. وتتخذ هذه المعركة شكل النزاع حول الجوانب العِقابية, حيث تطالب أجهزة الدولة الصحفيين بالالتزام بمواثيق شرف صحفية، والقبول بالعقوبات الكثيرة المنصوص عليها في تشريعات متعددة من بينها تشريعات الصحافة. وتردُّ الصحافة المستقلة بالمطالبة بإلغاء العقوبات وخاصة عقوبة الحبس في جرائم النشر, وهي عقوبات متشعبة أغلبها على ممارسات لا تشكل جرائم في المجتمعات الديمقراطية. ولكن القضية الحقيقية ليست تشريعات النشر, بل هي في الجوهر مصير الصحافة. ولهذا لم تكتفِ السلطات بتجنُّب الاستجابة للمطالب الجوهرية، بل ذهبت إلى إضافة قيود جديدة. فإضافة لفرض عقوبة الحبس على الطعن في الذمة المالية للموظفين العموميين، ثمة ميل شديد لإضافة عقوبات على ما ترى السلطات العامة أنه يهز الاستقرار الاقتصادي، وخاصة عن طريق نشر الشائعات. والواقع أن النزاع الحقيقي يذهب حتى أبعد كثيراً من قضية الاستقرار والفساد، أو حتى حرية الصحافة. ذلك أن النزاع الأهم هو دور الصحافة في النظام السياسي، بل وطبيعة النظام السياسي نفسه. فالصحافة شكلت قاطرة النضال من أجل إصلاحات سياسية ودستورية أكثر عمقاً, وما يحدث للصحافة يتفق إلى حد كبير مع ما حدث مع القضاء، ومع الحركات السياسية والاجتماعية الجديدة, أي محاولة إلزام قوى اجتماعية وسياسية ومؤسسات جوهرية للحياة الديمقراطية بالعودة إلى نمط التشريعات التقييدية التي بدت وكأنها تحررت منها خلال المرحلة القصيرة الماضية. والواقع أن مصر والمغرب وعدة دول عربية أخرى نالت جانباً من الإصلاح الإعلامي الفعلي, بفضل قرار الدولة خلال الأعوام القليلة الماضية بتحمل جرعة النقد الكبيرة، والتي تخطى بعضها كل ما يسمى أو يعتقد أنه "خطوط حمراء". قارنوا ما يتحمله النظامان السياسيان المصري والمغربي مثلاً من انتقادات الصحف الخاصة بما تفعله بعض النظم العربية الأخرى لتدركوا مدى التقدم الفعلي في ميدان حرية الصحافة. ويقوم الإعلام المطبوع في مصر اليوم بدور كبير في إتاحة المعلومات والأفكار والبدائل للمواطنين. وقد شكل الإعلام المطبوع قاطرة التحولات السياسية في مصر إلى حد كبير. ولكن هل يعنى ذلك أن الإصلاح الإعلامي تحقق؟ بالقطع لا. نشهد أن الدولة تتحمل نقداً لاذعاً وملتهباً. ونشهد أن الصحف الخاصة تتمتع الآن بحرية فعلية لا يعرف بعضها كيف يوظفها لإثراء عقل وضمير الأمة، فذهب إلى أطراف المهنة الإعلامية ليجمع منها أسوأ ما فيها، بما في ذلك الإثارة الجنسية وصناعة الإشاعات واغتياب خلق الله، وأحياناً اغتيالهم معنوياً, وهو ما يسهُل على الجميع ملاحظته. ولا تخطئ عين المراقب أيضاً أن الدولة في مصر والمغرب تركت الفضاء الإليكتروني حراً بصورة كاملة خلال العام الماضي، بحيث صار أكثر قطاعات الإعلام ثراءً. ولعلنا نحتاج بضع سنوات إضافية لنفخر بأن لدينا صحافة إليكترونية أهم وأقوى من الصحافة المطبوعة, إن لم يتم القضاء على الحرية في هذا الحيز أو تقييده تقييداً شديداً. وأتصور أن هذه ستكون الخطوة التالية بعد تقييد الصحافة المطبوعة بالتشريع الذي يوضع الآن، والمبالغة في العقوبة على ما يسمى بالطعن في الذمة المالية. إذن لدينا تطورات مثيرة في مجال الإعلام. ولدينا حقيقة أن الإعلام رغم كل مشاكله يقود النقاش العام حول المستقبل السياسي لمصر والمغرب. ولكن لدينا أيضاً شهادات مناقضة. الشهادة الأولى هي أن ما تحقق من تطور في الفن الصحفي و"سقوف التعبير" في مصر والمغرب تحقق على يد الصحف الخاصة، وبدرجة أقل الصحف الحزبية، وأقلية شديدة من المجلات والصحف القومية، حتى نكاد نتحدث عن صفحة ممتازة أو تحقيق بعينه طبقت فيه فنون الصحافة الحديثة وبعقلية متفتحة، أو مقال أو عمود لا يبارى. المؤسسات الصحفية القومية لم تزل ترزح تحت عبء بيروقراطية ثقيلة تدور حول شخص واحد يستطيع أن يفعل بها ما شاء. فإن كان عاقلاً ويتمتع بمحبة واحترام زملائه سارت الماكينة بدرجة "مقبول" أو "جيد" وليس أكثر. ولكن الأهم من ذلك أننا فشلنا في إنتاج مفهوم للصحافة القومية يتفق مع المعايير السائدة في المجتمعات الديمقراطية, أولاً من حيث هي صحافة بالأصل، وثانياً من حيث هي قومية. فلازالت الصحافة المصرية تنتهج أصول المدرسة "التعبوية" البائدة. كما أن القليل جداً من الصحف القومية وخاصة في المستوى السياسي ينطبق عليه صفة القومي. فهذه الصحف تنطق بلسان المؤسسة الرسمية للحكم. ولا حل للمشكلتين معاً سوى بناء مؤسسات حقيقية ومستقلة تقوم على صناعة ثقيلة ومؤسسية للقرار الصحفي، وليس تركيز السلطة بصورة مُطلقة بيد شخص واحد, مؤسسات تجند للوظائف العليا بها أفضل العقول وأكثر الصحفيين المعروفين بالامتياز المهني وباستقلالهم الفعلي عن السلطة التنفيذية أو الحزبية.. ولكن مهما كان حجم المشكلة في الصحافة المطبوعة فهي لا شيء بجانب الإعلام التلفزيوني والإذاعي. فإذا كانت بعض الصحف المطبوعة في مصر والمغرب لا تزال على جدول أهم الصحف العربية, بغض النظر عن ترتيبها بين العشرة الأوائل فإن الإعلام التلفزيوني والإذاعي المصري والمغربي خرج تماماً تقريباً من الفضاء التلفزيوني والإذاعي العربي, ولم يعد له وجود تقريباً في هذا الفضاء من حيث المضمون، بالرغم من أنه سبق الجميع تاريخياً وفي الانتقال الفضائي. وقد ترتبت هذه النتيجة على أمور كثيرة منها السقوف بالغة الانخفاض للحرية في مؤسساتنا الإعلامية, ومنها سوء وفوضوية الإدارة، وهو ما يرتبط بدوره بأسلوب التجنيد للوظائف العليا في هذه المؤسسات, وتفضيل الولاء المطلق على الامتياز المهني. ومنها فلسفة الكم وليس الكيف, ومنها تآكل الثقافة والمعرفة بين الأجيال الجديدة من المشتغلين بالإعلام, بسبب الأزمة الممتدة للتعليم والثقافة في مصر وبقية الدول العربية، فضلاً عن عوامل أخرى. إن كل العوامل والاعتبارات السابقة تدخل في حيز السياسات والقرارات الفعلية العشوائية والمقيدة سياسياً فضلاً عن الارتباط المتزايد بين المال والسياسة والإدارة. ولكن المشكلة الأعمق، والتي ربما تكون وراء كل هذه الاعتبارات هي الفلسفة التشريعية. ولن نخوض كثيراً في تلك الفلسفة, إذ يكفينا أنها لا زالت تصر على المنهج العقابي، وعلى إبقاء القيود على حق تأسيس المنابر الإعلامية الخاصة, وهو ما يقود إلى تضييق حيز المنافسة وحيز التعبير, بالرغم من التوسع في منح التراخيص خلال السنوات الأخيرة للصحف الخاصة دون المنابر التلفزيونية والإذاعية. فبنهاية المطاف لن تكون هناك حرية طالما أن الدخول إلى الفضاء الإعلامي يقوم على "الترخيص" وليس "الإخطار", والتقييد وليس الإباحة. ويتضمن الجمود التشريعي أيضاً احتفاظ الدولة بوسائل مُعقدة بحق تعيين رؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارة، واستخدام هذا الحق على ضوء الولاء الثابت والكامل, وأحياناً على ضوء سياسة تقوم على عقاب الصحفيين, وتجاهل مشكلاتهم وقضاياهم لسنوات حتى توحَّش بعض رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير بما هو أبعد من الخيال أحياناً. تجاهلت الدولة ما يحدث في المؤسسات الصحفية والإعلامية، وهو في أكثره جبالٌ من الفضائح الإعلامية والسياسية والمجتمعية والأخلاقية, وهو وضع مكمل لما يحدث في مجال الاقتصاد والرياضة وغالبية قطاعات المجتمع. وبعد أن تركت الدولة فرصة لتفريغ الاحتجاجات الشعبية والثقافية خلال الأعوام القليلة الماضية، ثمة بداية لعملية ردة تشريعية وسياسية معاً فيما يتعلق بالصحافة والحريات العامة والنقد السياسي والثقافي. لهذه الأسباب كلها تبدو المعركة الحقيقية حول القرار السياسي والنظام السياسي ومستقبله. فمن يدافع عن حرية الصحافة يريد ما هو أكثر كثيراً من الحرية المهنية, بل يريد بلداً قادراً على مناهضة الفساد, وبلداً يتمتع فيه الناس بحماية القانون, ويتبنى المشاركة كفلسفة للحكم. والعكس صحيح. فأعداء حرية الصحافة يرفضون أي إصلاح جوهري للنظام السياسي، ولا يريدون تمكين أية مؤسسة، وخاصة الصحافة، من مراجعة قراراتهم وسياساتهم، بل وأوضاع البلاد الفعلية، وخاصة فيما يتعلق بالتقدم الاجتماعي والسياسي.