لا تنتهي صراعات الخرطوم مع واحد من أعمدة النفوذ الدولي أو يتراجع بعضها حتى يبدأ صراع آخر من ذات النوع، لقد أصبح من سمات نظام الحكم في السودان أن يرفض القرارات ذات الطابع الدولي ويتمسك بذلك الرفض حيناً من الدهر ثم يبدأ الضغط الخارجي وتتعدد الوساطات العربية والإفريقية، فيبدأ التراجع كما حدث أخيراً في قضية المساهمة الدولية في أزمة دارفور، التي كان لوساطة خادم الحرمين الشريفين عاهل المملكة العربية السعودية الفضل في حمل الخرطوم على التراجع فيها وقبول ما سمي بالمرحلة الثالثة من التدخل عسكرياً في دارفور. آخر الصراعات التي نتحدث عنها صراع الخرطوم مع محكمة الجنايات الدولية التي تطالب الآن بتسليمها اثنين هما السيد أحمد هارون وزير الدولة سابقاً في وزارة الداخلية، والسيد علي كوشيب الذي يدعي الاتهام الدولي أنه من قادة مليشيات "الجنجويد" التي قيل إن الحكومة كونتها، والمتهم بعدد من جرائم القتل والاغتصاب التي يعتقد أنها تمت في العامين 2003 و2004. لقد بدأت المحكمة الجنائية الدولية وبقرار من مجلس الأمن الدولي تتابع ما يجري في دارفور عن كثب وأجرت سلسلة من التحقيقات الجنائية على أرض الواقع مستعينة بعشرات بل مئات الشهود المحليين الذين تحرص على عدم إعلان أسمائهم حماية لهم من أي بطش متوقع. وقام المدعي العام في المحكمة الدولية ومعاونون له بأكثر من زيارة للسودان شملت بالطبع دارفور وغيره، ثم كان قرار المطالبة بتسليم هذين المتهمين للمحاكمة الذي ترفضه حكومة السودان ويقول وزير العدل فيها: إن السودان لم يوقع على اتفاقية روما الخاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وإنه (أي السودان) غير ملزم بتنفيذ قرارات تسليم أولئك المتهمين. وينسى السيد الوزير أو يتناسى أن المحكمة الدولية تتصرف في هذا الأمر تنفيذاً لقرار من مجلس الأمن الدولي، والسودان عضو في منظمة الأمم المتحدة وملزم بتنفيذ قرارات مجلس الأمن. إن اتهامات المحكمة الجنائية الدولية تلاحق نحو (50) من القادة والكوادر الوسط من أعضاء الحزب الحاكم في السودان "الإنقاذ"، ولكن المحكمة فيما هو واضح أرجأت الخوض في أسماء متهمين آخرين في هذه المرحلة واكتفت بالمتهمين الأخيرين المشار إليهما أعلاه، والقائمة الأصلية فيما تسرب من أنباء تضم أعضاء في مستوى الوزراء أو مستشاري رئيس الجمهورية وبعض كبار المسؤولين عن إدارة ولايات دارفور الثلاث. الخطوة التالية المرتقبة هي أن يطلب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية من البوليس الدولي "الإنتربول" القبض على هذين المتهمين وإرسالهما مخفورين إلى لاهاي، وقد يكون عسيراً تنفيذ تلك الخطوة إلاّ إذا قرر المتهمان أو أي منهما مغادرة السودان لسبب أو لآخر. إن الاختلاف مع ادعاء المحكمة الدولية ورفض تنفيذ قراراتها بحجة غير مقنعة وهي قرارات يسندها ويعززها مجلس الأمن يفتح للسودان جبهة جديدة من صراع لن يأتي إلاّ بالمزيد من العزلة والعقوبات الدولية. وواضح لنا الآن أن الحزب صاحب الأغلبية في الحكم "الإنقاذ" الذي عنده 52% من مناصب الحكم هو المسؤول عن هذه السياسة، ذلك أن الشريك الأكبر في الحكم وهو "الحركة الشعبية" (الجنوب) أعلن صراحة أنه يرى وجوب تسليم المتهمين للمحكمة الدولية، وأنه يتبرأ من تمسك الحكومة برفض القرار جملة وتفصيلاً. يتواصل هذا الصراع ودارفور ما زال يعاني من اضطراب وعدم أمن شملا بالتقريب كل ولاياته الثلاث. محجوب عثمان