تكرر اليوم الولايات المتحدة الأميركية، الفكرة السيئة نفسها، التي تهدد بدمار أوروبا، وبالتالي بدمار أميركا أيضاً. وتتلخص هذه الفكرة في فرار ما يزيد على 600 ألف من المقيمين إقامة غير شرعية، أمروا بمغادرة الحدود الأميركية، إلا أنهم تمكنوا من التخفي والهرب من سلطات الجنسية والهجرة. ومثلما هو الحال في أوروبا، فها هي واشنطن تؤكد أيضاً أن خفر الحدود والسواحل، وصيانة السيادة والهوية القومية، ليست من أولوياتها. ولكن لمَ هذا التجاهل لأعز مقومات أية أمة من الأمم أو شعب من الشعوب؟ والإجابة أن فكرة الوطنية بحد ذاتها، هي نوع من المرض الصبياني الطفولي، الذي لا يصح لأمة من الأمم أن تبني حياتها على أساسه. وبدلاً من ذلك، فإن دولة التعدد العرقي الثقافي وحدها، هي القادرة على تأمين السلم والتسامح الاجتماعيين، إضافة إلى أنها الوسيلة الأنسب لتحقيق الرفاه والازدهار الاقتصادي. وقد ظلت النخب السياسية تحمل هذه القناعة لفترة طويلة من الوقت. ولا يزال "كارل ماركس" بطلاً في عيون الكثير من المفكرين وصانعي السياسات والقرارات. ذلك أن "ماركس" هو أول المبشرين بفكرة عالم إنساني بلا حدود. وإذا كنت تشك في هذا، فدونك ذاك التقريظ الذي دبج به الكاتب "توماس فريدمان"، سيرة "ماركس" في كتابه "العالم المسطح". يقول فريدمان: "وعند قراءتي للبيان الشيوعي اليوم، فقد هالني عمق ماركس ودقته في تحليل القوى الجديدة التي عملت على تسطيح العالم في أيام صعود الثورة الصناعية، وكيف أنه تنبأ لتلك القوى نفسها، بأن تواصل تسطيحها للعالم، حتى يومنا هذا.. أليس ذلك دقيقاً ومدهشاً"؟! هكذا يعتقد "فريدمان"، ولذلك فليس من عجب أن يعيد نشر ما يزيد على الصفحة الكاملة في كتابه المذكور، من أدب النثر الماركسي! وكما نعلم، فإن فريدمان ليس ماركسياً، لكنه أحد دعاة العولمة ومنظريها البارزين. وطالما أن الشعار الأساسي لماركس –خاصة في بيانه الشيوعي- "يا عمال العالم اتحدوا"، فإن شعار "فريدمان"، فيما يبدو لي هو "يا دعاة العولمة اتحدوا". وعند "ماركس" كما هو عند فريدمان، فإن النتيجة النهائية واحدة لا خلاف عليها: لا أولوية للأمم ولا للتقاليد الوطنية. وكان هناك من حلم في الماضي، بأن تفضي عصبة الأمم، أو الأمم المتحدة حالياً، إلى نشوء ضرب من الفيدرالية العالمية. غير أن ذلك الحلم الطوباوي، قد تحطم على صخرة الواقع الوطني الصلدة، ما أن تبين عدم رغبة الجميع، في مشاركة كل من روسيا وإيران وزيمبابوي المصير ذاته. وهكذا تبددت أحلام دعاة التسطيح والفيدرالية العالمية، بينما تبين أنه في مستطاع القارات وحدها، أن تخلق نوعاً من الاتحاد والترابط فيما بينها. ولهذا السبب عينه، نلحظ الآن أن الاتحاد الأوروبي يحتل مساحة شاسعة اليوم، تمتد من أيرلندا إلى بلغاريا، وأن كثافته السكانية قد بلغت نحواً من 500 مليون نسمة. وهناك من بدأ دعوة غامضة مبهمة اليوم إلى "الفكرة الأوروبية". غير أن الحقيقة الساطعة التي لا جدال عليها، هي أن أوروبا مكان عياني قائم في الأرض والجغرافيا والتاريخ، وهي ليست مجرد "فكرة" فحسب. وفوق ذلك، فهي أرض خاصة بالأوروبيين دون غيرهم. ولهؤلاء تاريخ مشترك، وكذلك ديانة مشتركة، هي اليهودية المسيحية. وقد ظلوا على تلك الحال، حتى حل اليوم الذي غامر فيه مفكروهم المثاليون الذين أرادوا تسطيح التقاليد والعادات الأوروبية باسم الوحدة الاقتصادية السياسية للقارة، فشرعوا الأبواب على مصراعيها، أمام الملايين من المهاجرين المسلمين. ومن المؤسف أن دعاة حلم التعدد العرقي الديني والثقافي السعيد، لم يتمكنوا من ترجمة هذا الحلم إلى واقع عملي مطلقاً. وبالنتيجة، فكم كانت سعادة المهاجرين المسلمين وهم يعبرون حدود القارة الأوروبية بالملايين، مستغلين في ذلك الدعوة المثالية إلى تسطيح العالم، بينما لم يظهروا أدنى استعداد لتسطيح تمسكهم المتشدد بشرعهم وثقافتهم الإسلامية. وهنا في أميركا، فلطالما ردد دعاة التسطيح والعولمة، من المثاليين "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" على حد سواء، فكرة "المنطقة التجارية الحرة" التي تشمل منطقة أميركا الشمالية كلها، كخطوة أولى، لكي تشمل لاحقاً القارة الجنوبية. ولكن علينا أن نعتبر بما حل بالاتحاد الأوروبي، ولنحرص على أن تظل أميركا للأميركيين وحدهم. ـــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"