يونس بحري يذكر بالسندباد البحري، فكلاهما عراقي؛ بفارق أن الأول سجل لأيام الأفراح، والثاني سجل لليالي الأتراح والأحزان. الأول جاء في حقبة ذهبية، والثاني ولد في ظروف جهنمية. الأول سجل رحلات الاكتشاف، والثاني كتب في مذكراته عن أيام الانقلابات، والمذبحة الشهيرة ضد العائلة المالكة. فدفع العراق ثمن ذلك الدم مصرع الملايين وما زال يدفع. يقول يونس بحري في مذكراته، إن عبد السلام عارف كان مضطرباً في دار الإذاعة، يوم 14 يوليو 1958؛ يخفف عن نفسه، بضرب رأس زميله المعتقل، والأعلى رتبة منه، المقدم ياسين، بعصا غليظة، بين الحين والآخر، وهو يقول إنْ فشلَ الانقلاب؛ فأول شيء أفعله أن أضحي بك، فيكون دمك عيداً لنا. وحين دخل عبد الستار السبع وهو حاملاً "الماشين جن" ملطخاً بالدم، هرع إليه صاحبه "عارف" وقبّله، وصرخ به: ما الخبر؟ فعانقه، وقال باللهجة العراقية: "كتلناهم"؛ فقام "عارف" وتوجه بالإذاعة إلى الشعب العراقي مدعياً أن قصر الرحاب يقاوم، والانقلاب ماض في طريقه؟ ونطالبكم أيها الشعب بالهجوم على القصر، فتحركت جموع هائلة من الدهماء، وهجمت على القصر فأعملت النهب والسلب. أما الوصي على العرش "عبد الإله"، فقد تمتعت به الجموع العراقية على طريقتها الخاصة، وسحلت جثته. تعرفت على يونس بحري عندما كنت في سجون "البعث"، وكان معنا في زنزانة صغيرة عشرة أشخاص؛ فلم أستطع مد ساقي طيلة 250 يوماً. وفي الغرفة كان معنا رجل سياسي مخضرم واسع الثقافة والحيلة اسمه "أبو راشد" ولا أحفظ غير هذا منه، فروى لي قصة الرجل، ثم سمعت متفرقات عنه، حتى اجتمعت بكتاب مذكراته الأصلية، فالتهمته في ليال قليلة، وكانت صدمتي من الكتاب كبيرة، فقلت حين فرغت من قراءته: لا جديد في العراق؛ العنف هو... هو، والدم هو... هو! وإذا كان "اندريه سيجريد" كتب عن "سيكولوجية الشعوب"، ليصف الألمان بالنظام والانضباط، والفرنسيين بالخيال، والأميركيين بالفعالية، والروس بالتصوف والزهد، والبريطانيين بالعناد... فيجب أن يضيف في السجل العراقيين صفة ما! إعدام برزان التكريتي بنزع رأسه في المشنقة، حدث غريب، ولكنه في العراق، مستنقع الدم، أمر عادي! وصدام ينبت من ثقافة الدم والإعدام المتبادل ذاتها... أما المالكي فلم يأت بجديد إطلاقاً... ومما روى لي "أبو راشد" عن نوري السعيد، أنه صاح يوماً بهم، فقال: هل تعلمون ما "الجشمة" (وهي باللهجة العراقية دورة المياه، وقد يكون أصلها تركيا)؟ ثم أردف قائلاً: أنا تلك الجشمة، فإذا قتلت انفتحت كل الروائح؟ وهذا ما حدث بعد الانقلاب المشؤوم حين جاء عبد الكريم قاسم ليقوم صدام بمحاولة اغتياله، ثم لتجري الدماء مدراراً، ولتقتل من العراقيين، ويشنق صدام... وأبو راشد الذي فارقناه، وبقي في الزنزانة رقم ثلاثة في سجن الحلبوني في دمشق، ولا أعرف أين هو الآن، أحي أم ميت! عاش يونس بحري في زواج بدون زواج، وعاش حياة بوهيمية؛ فتزوج أربعين، وأنجب خمسين، ولم يرب واحداً، ومن أنجبه من السيدة العراقية كتب تقريراً سرياً للمخابرات في حقه؛ فلم ينقذه سوى معرفة ضباط المباحث بأمره. وكانت حياته خصبة، فكتب أكثر من عشرين كتاباً، وزار أربعين دولةً، ونطق 16 لغة وعشر لهجات، وحكم بالإعدام في أفريقيا، ونجاه عقله وحسن تصرفه. أما قوته العضلية فكانت آية، ففي يوم لحق مسابقات بحر المانش بين فرنسا وبريطانيا، وهو حامل علم العراق، فقبل في اللحظات الأخيرة، وفاز فكان الأول الذي خرج من موج البحر بأفضل من سمك نهر دجلة... ومن سماه بحري هم النازيون وهو من أطلق برنامج "حيا العرب" من إذاعة برلين في ظروف الحرب العالمية الثانية، مفتتحاً الإذاعة بآيات من الذكر الحكيم، وهو تقليد التقطته إذاعة بي بي سي البريطانية ما زال حتى اليوم...