النظرة إلى الأجندة العالمية تُبين أن أحد أهم بنودها -حتى قبل أحداث الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمية في نيويورك يوم 11 سبتمبر 2001- هو عملية التحول الديمقراطي، فلا يخلو مؤتمر -عالمي أو إقليمي- من مناقشته، وطلب الأبحاث المتعمقة لرصد تطوراته، مكوناته، وشروطه، حتى أصبحت مركزية التحول الديمقراطي في النقاش العالمي تنافس مركزية بند العولمة في أجندة الدول والمجتمعات هذه الأيام. ففي مسح عام قمتُ به مع عدد من الزملاء في جامعات أميركا الشمالية، تبيَّن لنا أن المنشور يزداد زيادة كبيرة عاماً بعد عام. فمثلاً في الفترة بين عامي 1985 و1990 كان متوسط عدد المقالات العلمية المنشورة عن الموضوع سنوياً حوالى 120 مقالة، لكن هذا المتوسط السنوي قفز في الفترة بين 1995 و2000 ليصل إلى 270 مقالة علمية، أي أكثر من الضعف أو حوالى 145%. هناك إذن تراكم معرفي كبير عن الموضوع، ولكن ما نلاحظه أيضاً هو القلة النسبية للدراسات العلمية لتطورات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، سواء بواسطة باحثين أجانب أو حتى عرب، وبالتالي ظهر في الأدبيات المتخصصة عن هذا الموضوع ما يسمى الآن "الاستثناء العربي". والمقصود بهذا التعبير أن موجات التحول الديمقراطي المتعددة منذ منتصف القرن الثامن عشر، قد تعدت المنطقة العربية دون أن تتوقف أو حتى تؤثر فيها تأثيراً كبيراً، وبالتالي لم يتعرض الأدب المتزايد عن موجات التحول الديمقراطي -أجنبياً كان أم عربياً- بالتحليل والتقييم لنظم الحكم العربية وتطوراتها، وحتى عندما أخبرت أحد زملائي الأجانب منذ عدة سنوات، أنني أكتب كتاباً عن التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، تفحَّصني جيداً ليرى مدى جديتي ثم أردف متهكماً: "لاشك أن هذا الكتاب سيكون فعلاً قصيراً للغاية"، بمعنى أنني إذا التزمت بالأمانة العلمية فلن أجد الكثير لأقوله عن تطبيق الديمقراطية في منطقتنا العربية. في الحقيقة أن المقارنة مع تجارب الآخرين، حتى في كثير من الدول التي تتشابه معنا اقتصادياً واجتماعياً، تُبيِّن تأخر المنطقة العربية وتباطؤ عملية التحول الديمقراطي في أرجائها المختلفة، من الصومال أو موريتانيا إلى العراق أو سوريا، فالعديد من أقطار أميركا اللاتينية -مثل الأرجنتين أو المكسيك- دخلت مضمار العملية الديمقراطية منذ أكثر من خمسين عاماً، وحتى دولة مثل جنوب أفريقيا -التي كانت ترزح تحت أعباء نظام التفرقة العنصرية الصارم منذ حوالى عشرين عاماً فقط- نجحت في بناء نظام ديمقراطي سلس يقوم على تداول السلطة، والتعددية الحزبية، ومحاسبة المسؤولين، وضمان حرية التفكير والتعبير، وقيام تنظيمات للمجتمع المدني... إلى آخر مؤشرات التحول الديمقراطي. والنظرة السريعة إلى أحوال المنطقة العربية كما نعيشها الآن، تُبيّن أن العديد من هذه الأقطار لم يستطع أن يكون بمنأى عن انتشار المد الديمقراطي لفترة طويلة، وبالتالي تحذو هذه الأقطار الآن حذو بعض الدول العربية الأخرى التي بدأت إرهاصات التحول الديمقراطي منذ عقود، مثل لبنان، والكويت، والبحرين. إزاء هذا المد الديمقراطي، هناك نقطة مهمة يتم التغاضي عنها بسهولة، وهي أن عملية التحول الديمقراطي لها إشكالياتها وتحدياتها، وسأكتفي هنا باثنتين فقط: 1- هل سنقتصر على نقل المبادئ الديمقراطية الليبرالية بحذافيرها، رغم أن هذه المبادئ نبتت في تربة أوروبية- أميركية مختلفة ثقافياً وتاريخياً، أم سنقوم ببعض التكييفات المطلوبة؟ وفي أي اتجاه؟ وكيف ندعم الالتفاف الشعبي حول عملية التحول هذه لكي نحميها من العثرات أو الانتكاسات أو عمليات الإجهاض المختلفة؟ 2- لا يزال الجدال حول التحول الديمقراطي يركز أساساً على الشق السياسي، ولكن ماذا عن الشقين الاقتصادي والاجتماعي؟ هل نستطيع مثلاً تدعيم هذا التحول في بيئة من البطالة والفقر والتفاوت المفرط في الثروة؟ قد يكون إسهامنا في كيفية مواجهة هذه التحديات وسيلتنا لدخول معترك التحول الديمقراطي -كفكرٍ وممارسة- بعد طول غياب.