منذ أن أعلن الرئيس جورج بوش أنه سيرسل مزيداً من الجنود الأميركيين إلى العراق، فإن الجدل الدائر حول الحرب في ذلك البلد تصاعد ووصل إلى درجة عالية من الحدة. فالمعارضون لتلك الحرب، انتقدوا ما رأوه تصعيداً غير مبرر من جانب بوش، وفريق بوش قلل من جانبه من أهمية هذه المعارضة ووصفها بالإنهزامية... ليس هذا فسحب بل إن "ديك تشيني"، نائب الرئيس، ذهب إلى حد القول بأن الانسحاب الآن سيظهِر الأميركيين وكأنهم "قوم يفتقرون إلى الشجاعة الكافية لمواصلة القتال". لكن ما يتعين قوله في هذا السياق، هو أن العمل العسكري في العراق يتحدى كافة الآراء التقليدية المعروفة عن النصر والهزيمة. فنحن لم نذهب إلى العراق لاحتلال أرض، أو تدمير عدو، كما يتم عادة في الحروب، بل ذهبنا إلى هناك من أجل مهمة غير محددة الشكل تتمثل في استخراج قرارات سياسية من الشعب والحكومة العراقية- من خلال أساليب الملاينة والاسترضاء- ينتج عنها في نهاية المطاف إقامة مجتمع ديمقراطي تعددي يؤدي بدوره إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي. ورغم أن إقامة تلك الحكومة أو ذلك المجتمع يعد أمراً يستحق منا المتابعة واستمرار السعي، فإننا يجب أن نعترف في الوقت ذاته بأن ذلك لا يمثل الخيار الأمثل وأنه يجب- بالتالي- ألا يكون النقطة المحورية في سياستنا الشرق أوسطية، أو المعيار الوحيد لقياس نجاحنا أو فشلنا في العراق. ونحن بحاجة أيضاً إلى إعادة صياغة النقاط المرجعية الجيو- استراتيجية المتعلقة بسياستنا في العراق، كما أننا بحاجة أيضاً لإدراك أن خطة بوش ليست سوى خطوة أولية في عملية أوسع نطاقاً تتعلق بتكوين اصطفافات وتحالفات جديدة في الشرق الأوسط، وهي عملية بدأت بغزو العراق ولا ينتظر لها أن تنتهي قبل سنوات. في الوقت الراهن تتسابق دول الشرق الأوسط على إيجاد موطئ قدم مناسب لها بسبب التغيرات التي تحدث في موازين القوى الإقليمية في المنطقة بطريقة لا يمكن التنبؤ بها. في مركز تلك العملية من إعادة الاصطفافات وتكوين التحالفات، نجد إيران التي ينظر إليها كأكثر المستفيدين من غزونا للعراق. فهذا الغزو مهد الطريق لقيام حكومة شيعية تتبنى علاقات أكثر وداً بكثير نحو إيران مقارنة بما كان عليه الحال أيام صدام حسين. وقد استفادت إيران من ارتفاع عوائدها النفطية في تعزيز وضعها، وللتدخل في العراق، والسعي بقوة لاستكمال برنامجها النووي، وتمويل "حزب الله" و"حماس". لكن تذبذب بندول السياسة في الشرق الأوسط يمكن أن يعمل أيضاً في غير صالح إيران. فالسعودية ومصر والأردن ودول الخليج غيرها، أصبحت الآن أكثر انتباها للتصرفات الإيرانية، وأكثر حذراً تجاه الانقسامات الطائفية الإقليمية الآخذة في الاتساع حالياً. ونتيجة لتلك التغيرات، نجد أن قدرة أميركا على المساومة قد ازدادت في الآونة الأخيرة- ولا تزال مستمرة في التزايد- خصوصاً بعد أن أدركت الدول العربية المعتدلة أن وجود الولايات المتحدة في المنطقة أمر لا بد منه وأنها تمثل المعادل الموضوعي الذي لا غنى عنه بالنسبة لهم إذا ما أرادوا موازنة التأثير الإيراني المتزايد في المنطقة والذي يهدد مصالحهم وأمنهم القومي. هذا الوضع يفتح أمامنا نافذة من الفرص لترسيخ أهدافنا الاستراتيجية الأوسع نطاقاً، كما يوفر في الوقت نفسه خياراً بديلاً يمكننا اللجوء إليه في العراق. فحتى عند البدء في تنفيذ خطة الرئيس بوش الاستراتيجية لتأمين بغداد، فسنظل بحاجة إلى التخطيط لعملية إعادة انتشار واسعة للقوات الأميركية في المنطقة، بغرض الدفاع عن المنشآت البترولية في الدول المنتجة لهذه المادة واستهداف ملاجئ الإرهابيين وملاذاتهم في المنطقة، وردع أي ميول للمغامرة من جانب إيران... مع العمل في الوقت نفسه كعازل ضد الصراع الطائفي الإقليمي. وفي أفضل الحالات، فإن ذلك الوضع- يمكننا من أن نعزز قواعدنا العسكرية في الشرق الأوسط عبر إنشاء قواعد للقوات الأميركية خارج المدن العراقية. فمثل ذلك النوع من إعادة الانتشار في قواعد جديدة، سيساعدنا على المضي قدماً في خططنا الرامية لتدريب مزيد من القوات العراقية، وتقديم مزيد من المساعدة الاقتصادية، ولن يجعلنا مضطرين لذلك الوضع الذي نقوم فيه بحشر أنفسنا بين الطوائف العراقية المتنازعة. إن الزيارة الأخيرة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس للشرق الأوسط، وإقدام الولايات المتحدة الأميركية على إرسال حاملة طائرات إضافية إلى مياه الخليج العربي، تظهر بجلاء أن الإدارة الأميركية تدرك جسامة وخطورة ما يحدث في هذه المنطقة الحساسة من العالم، وضرورة التعامل معه بالشكل الذي يحول دون استفحاله. ويجب على واشنطن أن تعمل في سياق ذلك على إحاطة أصدقائها العرب علماً بأن هناك دوراً يتعين عليهم أن يلعبوه فيما يتعلق بتعزيز فرص المصالحة والوفاق بين الفرقاء العراقيين، وفي الحيلولة دون حدوث ارتفاع كبير في أسعار النفط بعد ذلك، وفي العمل على فصل سوريا عن إيران وتفكيك التحالف بينهما، والمشاركة بفعالية في تكوين جبهة أكثر صلابة وقوة من أجل مواجهة الإرهاب العالمي. ويجب على الولايات المتحدة أن تراعي في سياق ذلك كله نقطة في غاية الأهمية وهي عدم الإفراط في تقديم التنازلات أو الظهور بمظهر الدولة التي قد تؤثر مصلحة الغير على مصالحها، أملاً في الخروج بنتيجة لائقة في العراق، لأن ذلك يمكن أن يجعلها غير قادرة على التكيف مع المتغيرات الحادثة في المنطقة، أومع الحقائق الواقعية على الأرض في العراق. ورغم أنه أمر طبيعي أن تعزف أية إدارة عن الحديث حول "الخطة ب"، بينما لا تزال خطتها الأساسية "أ" قيد التنفيذ، فإن ذلك يجب ألا يحول بين الرئيس بوش والكونجرس، وبين العمل على تحقيق إجماع على الكيفية التي يمكننا بها حماية مصالحنا الاستراتيجية الأوسع نطاقاً، بصرف النظر عما يحدث في أحياء بغداد، أو ما يحدث في قاعة الجلسات في مجلس الشيوخ الأميركي. وبدون ذلك فإن الإنهاك الذي حل بنا نتيجة سياستنا في العراق، والإحباط الذي انتابنا من تلك السياسة والذي يجد تعبيراً عنه في قرارات الرفض التي يتخذها مجلس الشيوخ بصدد تلك السياسة، يمكن أن يؤديا بنا، ليس فقط لرفض الخطة الجديدة التي قدمها الرئيس بوش للعراق، ولكنه يمكن أن يؤدي كذلك إلى التخلي عن الأدوات والوسائل والعلاقات التي نحتاج إليها بصورة ماسة من أجل حماية مصالحنا الحيوية في منطقة الشرق الأوسط، تلك المصالح التي تتعرض حالياً للتهديد بسبب التطورات المتسارعة في هذه المنطقة الحساسة من العالم. ريتشارد لوجار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيناتور "جمهوري" من ولاية إنديانا وعضو في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست" ريتشارد جيه. وجار