لقد أصبح العراق هو قدر أميركا، حيث تواجه أخطر تحدٍّ يهدد البشرية في زمننا المعاصر ألا وهو خطر التطرف الإسلامي. ومواجهة هذا الخطر تعد أمراً في غاية الأهمية ليس للأميركيين فحسب، وإنما أيضاً -وهذا هو الأهم- للعرب أنفسهم، والذين يجب أن يركزوا على ما هو مهم في سبيل مواجهة هذا الخطر. فبدون تأمين العراق، فإن أي خروج منه -وهو الخروج الذي يطالب به العديد من العرب بكل بساطة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير- لن يكون له من معنى سوى أن أميركا قد قررت التخلي عن العراق لـ"الجهاديين" الإسلاميين، ولأعضاء "القاعدة" العدميين، والملالي الإيرانيين، والمتآمرين السوريين. وحتى إذا لم يكن العرب يحبون أميركا -كما تبيِّن كافة استطلاعات الرأي التي يتم إجراؤها من وقت لآخر- فإن خروج قواتها من العراق سيعني ترك مصير 350 مليون عربي في أيدي رجال إمبراطورية الظلام، وهو ما سيعْني في نهاية المطاف أن أكبر مخزون عالمي للطاقة سيسقط في هاوية الفوضى. ليس في أي شيء مما قلته ذرة واحدة من المبالغة. وما لا يقل عن ذلك أهمية وخطورة، أن خروج أميركا من العراق في الوقت الراهن، وتركه رهينة في أيدي المتمردين والأجانب، سيفتح الباب لحملات "جهادية" تستمر عقوداً وذلك عندما يحطم المتعصبون البوابات الإسلامية والعربية، ويتدفقون خارجين منها إلى دنيا "الجهاد" العالمي، وهو ما سيعني في هذه الحالة أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ستتكرر حتى تغدو بالنسبة لنا أسلوب حياة. وقد لخص السيناتور "جو ليبرمان" الموقف بشكل سليم في مقال له نشر في صحيفة "وول ستريت جورنال" عندما كتب يقول:"العراق جزء من صراع أكبر نطاقاً وأوسع مدى في الشرق الأوسط، يدور بين المعتدلين والمتعصبين، بين الديمقراطيين وبين المستبدين"، ثم يتساءل ليبرمان في نفس المقال: "هل نستسلم لهم... هل نسلم العراق لهم ونشجع أناساً كهؤلاء كي يتولوا زمام السلطة والسيطرة في كل أرجاء الشرق الأوسط، ومن ثم يصبحون في موقع أفضل يمكِّنهم من ضربنا مرة ثانية؟". وإذا ما دققنا النظر في حقيقة الأوضاع في المنطقة، فسيتبين لنا أن الفاعل الرئيسي فيها ليس هو أميركا وإنما إيران. هذه هي النقطة التي يجب أن يعترف بها كل من يناصبون أميركا العداء ويحاولون التغطية على ذلك. والتركيز على أخطاء إدارة بوش -وهي عديدة- موقف سديد ولا غبار عليه، بيد أن الاكتفاء بذلك مع غض الطرف في الوقت ذاته عن حقيقة أن إيران تمثل تهديداً أكثر خطورة في المنطقة، موقف أقل ما يمكننا وصفه به هو أنه "ساذج". فإيران ما تزال تتحرك بزخم الثورة الإسلامية التي اندلعت منذ ثلاثين عاماً، ومازالت تمثل رأس حربة "الجهاد الإسلامي"، وما تزال مفعمة بالطاقة، وتسير في طريقها بتوجيه من الملالي الدهاة، وبتمويل من عائدات النفط،، مسلحة في سياق ذلك حتى الأسنان، ومدفوعة للمضي قدماً بتأثير الزهو والصلف التاريخي. وبصرف النظر عن كافة ما يقال في الولايات المتحدة من أحاديث من وقت لآخر عن وجود شقاق في المجتمع الإيراني، وعن وجود مظاهرات تندلع هنا وهناك، إلا أن الحقيقة أن الغالبية العظمي من سكان إيران البالغ تعدادهم 72 مليون نسمة، متدينون ويصطفون وراء رجال الدين. وفي الحقيقة فإن الهيمنة جزء لا يتجزأ من الحمض النووي الإيراني، كما أنها جزء من خلاياها الحية. والواقع أن الإيرانيين قد خاضوا صراعاً أوسع نطاقاً خلال الصيف الماضي عن طريق "حزب الله" و"حماس"، وكيليها في لبنان وفلسطين، وأيضاً عن طريق مليشياتها وخلاياها في العراق... وليس هناك دليل يشير إلى أنها ستتوقف عما قريب. صحيح أن أميركا قد أدت لإيران أجلّ خدمة عندما أطاحت بعدوها اللدود صدام حسين من السلطة، إلا أن هذا لا يعني أن إيران تشعر بالجميل تجاه أميركا بسبب هذه الخدمة، أو أنها توقفت عن مناصبتها العداء. لذلك يمكن القول إن الرئيس بوش لم يكن مخطئاً عندما وصف إيران بأنها تمثل تهديداً دائماً لأميركا. وعندما تخرج أميركا من العراق، فإن الطريق يغدو خالياً أمام إيران وعملائها ووكلائها كي يمضوا قدماً -دون أن يعترض طريقهم معترض- للإطاحة بالأنظمة "الكافرة" العربية الواقعة في جوارها. بعض المراقبين حسني النية يذهبون إلى القول بأن أميركا يجب ألا تشغل نفسها بهموم الشرق الأوسط، وأنه يجب عليها أن تخرج من العراق حتى لو بدا أن ذلك يضر بسمعتها لأنها ستتمكن من التغلب على آثار ذلك بعد فترة من الوقت، كما سبق لها أن تغلبت على آثار خسارتها في فيتنام بعد فترة من الوقت، رغم كل الضجيج الذي أثير حول تلك الحرب. قد يكون ذلك الكلام مقنعاً في الظاهر، ولكن الحقيقة أن العراق أهم لأميركا من فيتنام بما لا يقاس ومن نواحٍ عدة. فأميركا عندما خرجت من فيتنام، فإن ما تركته وراءها كان ذاتاً مجروحة ودروعاً مخدوشة.. ولكنها إذا ما خرجت من العراق فستترك وراءها أكبر خزان طبيعي للنفط في العالم يحتوي على 60 في المئة من الاحتياطي العالمي من هذه المادة الثمينة ويقع في منطقة تسيطر عليها إيران والتعصب الإسلامي والأفكار "الجهادية" المتطرفة الموجهة في معظمها ضد الغرب ومصالحه الاقتصادية في المنطقة. والأكثر خطورة أن مغادرة العراق بشكل فجائي، ستترك العالم الإسلامي فريسة لـ"الجهاديينط وزعمائهم الذين أصبحوا مقتنعين الآن وربما أكثر من أي وقت مضى، بأنهم قد انتصروا على "الكفار الأميركيين" في القرن الحادي والعشرين، بعد أن كانوا قد انتصروا على "الكفار السوفييت" في أفغانستان في القرن العشرين، وأن ذلك سيجعل دعوتهم لـ"الجهاد العالمي" مسموعة في كافة أرجاء الكوكب. ليس بمقدور أميركا التخلي عن تلك المنطقة، خصوصاً وأن الدولة التي أصبحت تتحكم في ميزان الطاقة في العالم الآن هي روسيا، وهي دولة منافسة لأميركا وليست صديقة لها. إن مغادرة فيتنام بعد خسارة الحرب، قد خلفت في نفس أميركا مرارة... أما مغادرة العراق قبل التغلب على مشكلاته وتسوية أموره، فستكون إرهاصاً بكارثة أوسع نطاقاً!