هناك أكثر من جانب يمكن تأمله في إعدام صدام حسين وما تلاه من ردود أفعال, خاصة في عدد من البلدان العربية. لكن علينا أولاً: أن ننفك من الثنائية المملة والتبسيطية وقصيرة النظر التي تريد أن تحشر الناس بين مؤيد لصدام حسين أو مؤيد للاحتلال الأميركي. من الممكن جداً, ومن المعقول جداً, أن يكون المرء غير مؤيد للاثنين, كما هو كاتب هذه السطور. جرائم صدام حسين خلال عقود بطشه في العراق وجرائم الاحتلال الأميركي للعراق تتنافس مع بعضها بعضاً في البشاعة والسوء. انتقاد ماضي صدام حسين لا يعني أن ناقديه مؤيدون للكارثة الراهنة في العراق التي قادتها عصابة "المحافظين الجدد" في واشنطن. ثانياً: كل ما تعلق بمحاكمة صدام حسين من ناحية تشكيلها وأدائها ومكان انعقادها مشكوك في نزاهته بشهادة المنظمات الحقوقية المنصفة في العالم. كان من المفترض أن تتم المحاكمة وفق معايير دولية وخارج العراق لأكثر من سبب, أهمها تحييد شبهات الثأرية والانتقام, وإتاحة الفرصة للعدالة الكاملة لأن تأخذ مجراها بعيداً عن تأثير أي من الأطراف. هناك ملفات لم ترد الإدارة الأميركية فتحها في محاكمة صدام حسين لأنها سوف تدين أطرافاً ودولاً غربية, وفي مقدمتها الولايات المتحدة, خاصة فيما تعلق بجريمة "حلبجة" واستخدام الغاز ضد الأكراد العزل. ثالثاً: كل حيثيات وتفاصيل الإعدام وموعده التعيس في أول أيام عيد الأضحى أشارت إلى التفكير والممارسة العصابية الانتقامية التي لا تفتح فصلاً جديداً في تاريخ العراق، يبتعد به عن ممارسات الإعدام والقتل وإسالة الدماء. إعدام صدام حسين يكرس سنوات الدم ويفتح فصلاً لسنوات دموية جديدة, ولا يغلق ملف العراق الصدامي الدموي, ثم ملف العراق المحكوم بالاحتلال الأميركي الدموي أيضاً. لم يكن هناك نموذج جديد طرحته محاكمة صدام ثم الحكم عليه بالإعدام ثم طريقة تنفيذ الحكم, يشير إلى العزم على تبني نهج قائم على التسامح والديمقراطية وحكم القانون. مثل هذا النموذج يجب أن يلفظ فكرة الإعدام أساساً إن أراد أن يقدم ما هو جديد, حتى لو كان المدان والمجرم بموقع صدام وما قام به. رابعاً: يمكن أن يُضاف الكثير إلى ما ذكر أعلاه ليقوض الأسس القانونية والسياسية والثقافية التي قامت عليها المحكمة ثم الحكم الصادر عنها. لكن كل ذلك يجب أن يُفصل تماماً عن الموقف من صدام حسين وتاريخه الدموي. وبمعنى آخر يجب ألا يمتد انتقاد المحاكمة والحكم الصادر عنها ليصل إلى الصفح عن صدام حسين وتبرئته واعتباره شهيد الأمة العربية وأنه مظلوم وغير ذلك. فتاريخ صدام حسين الدموي يزخر بجرائم لا تعد ولا تحصى في حق العراقيين والعرب, ومن المفيد في غمرة التمجيد المدهش له أن نتذكر ما يلي: صدام حسين كرَّس سياسة الانقلابات والغدر السياسي والاغتيال في العراق حتى كادت أن تصبح ثقافة. صدام حسين قاد العراق إلى حربين لا معنى لهما, الأولى مع إيران استمرت ثماني سنوات وقدر عدد ضحاياها بمليون, والثانية ضد الكويت وما تلاها من حرب ضد العراق وسقط جراءها عدد من الضحايا لا يقل عن نصف ضحايا الحرب الأولى. صدام حسين استخدم الأسلحة الكيماوية ضد جزء من شعب وأكراد العراق ولم ترمش له عين, وأباد عشرات الألوف من سكان جنوب العراق بعد الحرب الثانية. صدام حسين, وإثر غزوه الأعمى للكويت, شق الصف العربي بشكل غير مسبوق في تاريخ العرب الحديث, ليس على مستوى الحكام فحسب, بل على مستوى الشعوب والوجدان الشعبي. خلال عقود طويلة كان حكام العرب يختلفون, لكن الشعوب كانت متوافقة على بوصلات جماعية معينة لا تتأثر باختلافات الحكام وولاءاتهم. لكن غزو صدام حسين للكويت بعثر وللمرة الأولى -منذ اغتصاب فلسطين وقيام إسرائيل- البوصلة الشعبية العربية بشكل مُدمر وغير مسبوق من ناحية الحجم والامتداد. ولم تعد إسرائيل هي عدوة كل العرب حيث صار العراق هو العدو الأكثر تخويفاً لعدد من تلك الدول, ولم تعد الولايات المتحدة جديرة بالانتقاد الدائم لدعمها الأعمى واللامحدود لإسرائيل, بل صارت أقرب لبعض الشعوب العربية من جاراتها العربيات. لم يكن هذا ليحدث لولا جاهلية وعماء صدام حسين وسياساته. خامساً: بسبب ما سبق، فإن صدام حسين هو المسؤول عن استقدام القوات الأجنبية إلى المنطقة ثم تمركزها فيها وإقامة قواعد في أكثر من بلد عربي بزعم حمايته من أي عدوان آخر يقوم به تجاه جيرانه. سادساً: صدام حسين هو المسؤول عن تدهور التضامن العربي في أوائل التسعينيات, بعد غزوه الكويت, وهو التدهور الذي قام على أنقاضه مؤتمر مدريد ثم اتفاقات أوسلو التي هضمت حقوق الفلسطينيين وحرمتهم من عمقهم العربي الحقيقي والمؤيد لهم. لولا هشاشة الوضع العربي في تلك اللحظة التاريخية لما كان بإمكان إسرائيل فرض شروطها كما تريد وخفض سقف الحقوق العربية والفلسطينية بالطريقة التي حدثت وما زالت تحدث. سابعاً: لا يقلل سرد ما سبق, وهو نزْر يسير من سيرة صدام حسين المدمرة, مسؤولية الولايات المتحدة والغرب عن الخراب الذي حدث وما زال يحدث في العراق. أهداف الولايات المتحدة معروفة، ومعلنة ورئيسها يقول نحن شعب مدمن على النفط، وهناك استراتيجيات غير مخفية وكلها كولونيالية وإمبريالية وتوسعية وحشية. ولتحقيق هذه الأهداف عملت الولايات المتحدة وتعمل وستظل تعمل ليلاً ونهاراً وتستغل ما تستطيع استغلاله بما في ذلك توظيف السياسيين وتوريطهم وخداعهم. نحن لا نكتشف شيئاً جديداً عندما نقرر بشاعة ووحشية السياسة الأميركية في المنطقة. المشكلة هي في مدى يقظة من يهمهم الأمر وعدم انسياقهم في مسارات تودي ببلدانهم إلى الدمار والخراب. ثامناً: كل المنجزات التي تنسب للحقبة الصدامية سواء اقتصادياً أم عسكرياً أم تنموياً هي منجزات الشعب العراقي والعقول العراقية. العراق ليس بيداء جدباء لم تنجب إلا صدام حسين و"عبقريته". ما فعله صدام حسين بتهوره وجنون العظمة الذي تملَّكه هو أنه أهدر تلك المنجزات ودمرها في سنوات قياسية. في ضوء ذلك وغيره كثير مما لا تتيحه هذه العجالة يعجب المرء إزاء حالة النواح العربي المخجلة التي حلت ببلدان عربية وشرائح شعبية ومثقفين وحركات سياسية إزاء التضامن معه كشخص وتبجيله وتعظيمه واعتباره بطلاً وشهيداً. إن ذلك يطرح سؤالاً قاسياً وكبيراً حول حساسيتنا تجاه الجرائم التي من الممكن لأي ديكتاتور شبيه أن يرتكبها ضد هذا الشعب العربي أو ذاك إن نجح في تغطية تلك الجرائم بخطابات شعبوية نارية تلهب عواطف الناس لكن تدمر حاضرهم ومستقبلهم.