هل تختلف الرؤية العربية للعراق في حاضره ومستقبله عن تلك الأميركية؟ بالطبع، بل لابد أن تختلف. فحتى مع الرؤية العقلانية التي وردت في تقرير "لجنة دراسة العراق" المسماه بـ"لجنة بيكر– هاملتون"، فإننا لا نعرف ما الذي في رأس الإدارة الأميركية الحالية صاحبة قرار غزو العراق، الذي سيكون نموذجاً للمنطقة، نبراس الديمقراطية والحرية والرخاء، والذي سيصرف بنفسه على تكاليف غزوه من عوائد نفطه، والنهضة التي ستتلو تحريره من نظام صدام حسين القمعي، كما روج لذلك "المحافظون الجدد"، قبيل حربهم التي باءت وخسرت. أما رؤية "بيكر– هاملتون" كما وردت في التقرير الأخير الذي شغل الناس الأسبوع الماضي، فقريبة للرؤية العربية المسؤولة، فهي لم تشر للديمقراطية، والنموذج الذي يحتذى، وإنما تواضعت إلى "وحدة العراق وسلامة أراضيه ووقف التدخلات وأعمال زعزعة الاستقرار من جانب جيران العراق، وتأمين الحدود، ومنع امتدادات النزاعات(...) ومساعدة الحكومة العراقية في وضع بنية صلبة في الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية، بما في ذلك تحسين أدائها في قضايا مثل المصالحة الوطنية والتوزيع العادل لعائدات النفط وتفكيك الميليشيات"، أي أنهم باختصار يتمنون لو عادت "الجمهورية العراقية" إلى ما كانت عليه زمن صدام حسين مع بعض الإصلاحات، دولة ذات سيادة، مستقرة، لا تكون مصدر تهديد لجيرانها لا مباشرة بالغزو والحرب كما فعل صدام أكثر من مرة، ولا بشكل غير مباشر، كما هو الحال اليوم بانتشار الفوضى نتيجة غياب الدولة حتى أضحى العراق "قاعدة رئيسية للإرهاب" كما صرح مؤخراً سمو وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز. يُضاف إلى ذلك أنه أصبح أيضاً المصدر الأول لتهريب المخدرات إلى المملكة ودول الخليج. ويمكن فهم حالة غالبية صناع القرار في الولايات المتحدة، ومعهم "بعض" جيران العراق، بسعودي أو خليجي دخل سوق المال في بلده في منتصف العام الماضي، فحقق مكاسب كبرى خلال شهور قليلة- زعم "المحافظون الجدد" أنهم حققوا مكاسب في العالم العربي في الأشهر التالية لغزو العراق عندما ارتفعت نبرة الاهتمام بالإصلاح في المنطقة، فضربوا مثلاً بـ"ثورة الأرز" في لبنان، والانتخابات في مصر والسعودية- فلم يكتمل العام حتى أنهار السوق، فبقوا فيه مؤملين أن يعاود الارتفاع فيعوضوا أرباحهم التي خسروها، بل إن بعضهم ضخ مزيدا من أمواله ليسرع في عملية التعويض- قارن هنا مع إصرار الإدارة الأميركية البقاء في العراق وعدم تغيير الخطة، والحديث عن إرسال مزيد من القوات- فانهار السوق مرة أخرى، فاستفاق المستثمر وبات يتمنى لو عاد أليه فقط رأس ماله أو بعض منه. اليوم جميعنا (باستثناء المستفيدين) نريد عودة رأس المال العراقي، أي "جمهورية العراق" المستقرة، الآمنة مع نفسها وجيرانها، ثم نأمل بعد ذلك في "الأرباح" من نوع الديمقراطية والرخاء والتعاون الإقليمي، والأسواق الحرة، والسياحة وغير ذلك من التوقعات التي ترقى اليوم أن تكون مجرد أحلام، وذلك في زمن القتل الطائفي، والتعذيب في مقار الوزارات، والتفجيرات الانتحارية، وخطف وقتل السفراء ورجال الأعمال. لقد بات للأميركيين خطتهم، وإنْ كانت لا تزال أفكارا عامة، تغلفها النوايا الحسنة والتوقعات الطيبة، فهل حان الوقت أن نطور نحن العرب- ولعل تركيا تكون شريكاً معنا- خطة مماثلة أو مكملة لخطة "بيكر– هاملتون"؟ والتي ستواجه صعوبات ومحاولات تجيير من المستفيدين الإقليميين من الانهيار الحاصل، وكذلك من أولئك داخل الإدارة الأميركية الذين مازالوا مصرين على "الجائزة الكبرى" والذين يرون في أهداف خطة "بيكر– هاملتون" والقاضية في النهاية بانسحاب أميركي من العراق هزيمة لهم ولمشروعهم، القاضي بوجود دائم في العراق ممثل في قواعد عسكرية وسفارة هائلة لا تزال تبنى في بغداد، وهي مسائل أهمل الإجابة عليها التقرير الأخير لحساسيتها، وقد أثار هؤلاء القلق من جديد بتسريبهم معلومات لـ"الواشنطن بوست" السبت الماضي، وكأنها عملية إجهاض مسبقة لتقرير "بيكر– هاملتون"، يتحدث عن بدائل تدرسها الإدارة في العراق من بينها الانحياز للغالبية الشيعية وحسم المعركة لصالحهم في العراق، وفكرة كهذه لا تخرج إلا عن جهة لا تزال مصرة على الفوز بالعراق ونفطه بأي تكلفة كانت. ومشروع كهذا لا يتم إلا بوجود حكومة قمعية، كحكومة صدام حسين، ولكن على رأسها هذه المرة ديكتاتور شيعي أو بتقسيم صريح للعراق، وكلا الأمرين كارثة للعراق وجيرانه، أو بالأحرى لبعض جيرانه. من الضروري أن نستثمر في "الحكمة" الطارئة التي أصابت أجهزة صنع القرار في واشنطن أخيراً، ونساندها، وندعم الحكماء الذين صاغوا التوصيات الأخيرة حتى يقنعوا الإدارة الحالية بها، والتي لا تزال مترددة في القبول بها، رغم ضعفها الواضح عقب الانتخابات التكميلية الأخيرة، وبالرغم من الرأي العام الأميركي المؤيد لها، بل المتعلق بها وكأنها حبل النجاة الأخير، وذلك بتطوير موقف عربي موحد مؤيد ومطور لها، ولعل البداية تكون في قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي عقدت خلال الآونة الأخيرة في الرياض، وتحقيق دعوة خادم الحرمين الشريفين إلى "أن يكون صوتنا واحداً" إزاء التداعيات الخطرة التي نواجهها في المنطقة والتي وصفها حفظه الله "كأنها خزان مليء بالبارود ينتظر شرارة لينفجر". ويمكن أن يضاف إلى تقرير "بيكر– هاملتون" رؤية أكثر واقعية، وإن كانت متشائمة للجنرال المتقاعد "أنتوني زيني"، والذي يعرف المنطقة جيداً ذلك أنه خدم لسنوات كقائد للقوات الأميركية فيها لعدة سنوات، فهو يرى أنه لا يوجد حل على المدى القريب، بل يتوقع أن استقرار الوضع في العراق يحتاج إلى فترة تتراوح من 5 إلى 7 أعوام من العمل والجهد وفق خطط محددة سياسية وأمنية وعسكرية، وهو عمل لا تستطيع الولايات المتحدة فعله لوحدها، بل لقد كان انفرادها بالعمل هناك في زمن وزير الدفاع المقال دونالد رامسفيلد هو أحد أسباب تردي الوضع هناك، لقد بات من المؤكد أن وزير الدفاع الجديد "روبرت جيتس" سيحمل معه روحاً جديدة للبنتاجون، أكثر انفتاحاً واستعداداً ورغبة في إشراك القادرين من دول المنطقة في الهم العراقي، ومن الضروري النظر إلى هذا التغير في "البنتاجون" كمؤشر مهم لتحول قادم في السياسة الأميركية لا يقل أهمية عن تقرير "بيكر– هاملتون". الفرصة مواتية، ولكن تحتاج- كما قال "زيني"- خطة عمل أكثر تفصيلاً، وهذه لن تكون إلا بتعاون بين دول المنطقة الراغبة في إصلاح الوضع، ولا بد من الاعتراف أن هناك دولا مستفيدة من استمرار الوضع الحالي المتردي، وبالتالي فإن شراكتها في تجمع الدول المجاورة للعراق، والتي أطلقته المملكة مباشرة بعد الغزو الأميركي له، واجتمعت أكثر من مرة، دون تحقيق نتائج تذكر، لم يعد مفيداً ما لم تتعاون مع الغالبية الحريصة على وحدة العراق وسلامته، ويمكن اختبار جديتها فيما لو طُورت العلاقة داخل مجموعة الدول الثماني المجاورة للعراق، إلى ما بعد المواقف العامة، إلى خطط محددة تهدف مثلاً إلى القضاء على الميليشيات الشيعية المتطرفة و"القاعدة" ابتداء، ثم تراقب بعد ذلك وتحاسب في الالتزام بما اتفق عليه. لقد امتلأ مخزن البارود، وهناك من يريد أن يشعله، وبالتالي لا بد من الأخذ على يده قبل أن يقدم على مغامرة أخرى.