بعد انقضاء عدة أسابيع على الانتخابات الأميركية الأخيرة، والتي سيطر بموجب نتائجها "الديمقراطيون" على مجلسي النواب والشيوخ، بدا واضحاً أن "الديمقراطيين"، شأنهم شأن خصومهم "الجمهوريين"، يفتقرون هم أيضاً إلى خطة أو تصور لما يجب أن تسير عليه الأوضاع في العراق، أو لمصير القوات الأميركية المرابطة هناك. فسرعان ما تبخرت تلك الأفكار والتصورات التي قال بها بعض "الديمقراطيين"، قبيل وأثناء الحملة الانتخابية الأخيرة، مثل الانسحاب الفوري أو التدريجي لنحو 140 ألف جندي أميركي لا يزالون في العراق، أو تقسيمه إلى ثلاثة أقاليم أو مناطق عرقية، على أن يعقب ذلك التقسيم انسحاب مباشر للقوات الأميركية منه. فقد تلاشت كل تلك التصورات ما أن بدأ الساسة الأميركيون في فحص العواقب الفعلية المحتملة لأي تخطيط لاحق للموقف هناك، مع العلم أنه بلغ حد الكارثة سلفاً. وفي المقابل فلا يزال "الجمهوريون" يراوحون مكانهم وافتقارهم لأية خطة لحل المأزق، ولا يزال على إدارة الرئيس جورج بوش، رسم خريطة طريق جديدة للخروج منه، رغم تصريح بوش الأخير والذي قال فيه إنه لم يعد على التزامه السابق بـ"البقاء في العراق"، بيد أنه أيضاً، وبالقدر نسفه، ليس مستعداً لتنفيذ استراتيجية "القطع والهرب"! وليس ذلك فحسب، بل لا يبدو أن لجنة دراسات العراق التي يقودها وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، وزميله "لي هاملتون"، قد توصلت إلى أي وصفة سحرية لحل المأزق، عقب مضي ما يقارب السبعة أشهر من التحقيقات وبحث الوضع وتمحيصه هناك. وفي غضون ذلك مضت الأوضاع في العراق إلى حد لم تعد فيه السيطرة عليه ممكنة. فليس من قبيل التهويل ولا المبالغة في شيء، القول إن العراق لا يشهد حرباً أهلية واحدة فحسب، وإنما عدة حروب أهلية تدور رحاها في وقت واحد، بين الطوائف السُّنية والشيعية من جهة، وأخرى يواصلها الجهاديون ضد القوات الأميركية، وثالثة يؤجج نيرانها المقاتلون المتسللون من دول الجوار. فالذي يحدث هناك هو من نوع الفوضى الدينية العرقية، التي سرعان ما يتسع نطاقها ومداها، بل ويتعمد البعض الدفع بها إلى داخل حدود الدول المجاورة. والمعروف عن هذا النوع من الفوضى، أنه لا يستقر على حالة واحدة، ولا يلتزم حدوداً سياسية أو جغرافية، وإنما يسعى إلى التمدد على صهوة التوترات الدينية العرقية الشبيهة، مستنسخاً هيئته وشاقاً طريقه إلى المجتمعات الممزقة المتصدعة بفعل عامل الظلم واللامساواة بين مواطنيها وأفرادها. وهناك من الساسة الأميركيين من ينادي بعقد مؤتمر إقليمي، تشارك فيه كافة الأطراف المعنية بحل المأزق العراقي، ومن ذلك أن تبدأ الولايات المتحدة مفاوضات مباشرة مع كل من سوريا وإيران. غير أن الحديث إلى كل من سوريا وإيران حول مغادرتهما للعراق، في وقت بدأ يتداعى فيه الأخير عملياً، إنما يشبه إلى حد كبير، فتح الباب أمام التماسيح التواقة للسباحة والتمرغ في بركة الدم العراقية. وكيف لنا أن نتصور انسحاب هاتين الدولتين والتخلي عن نفوذهما ودورهما في هذه الفوضى المستشرية في العراق، وقد خرجت كلتاهما من حرب الأربعة وثلاثين يوماً اللبنانية- الإسرائيلية، وهما على قناعة تامة بأن النصر كان حليف "حزب الله"، حصانهما الرابح هناك، بينما ترك الحصان الإسرائيلي الخاسر، وحيداً منعزلاً في تحالفه الخائب مع واشنطن. وليس ذلك فحسب، بل تتصرف كلتا الدولتين المجاورتين للعراق، كما لو أنه لا يزال في الإمكان زعزعة الأوضاع في لبنان، وجر ذلك البلد مجدداً إلى دوامة الفوضى والعنف، المفضية لاستعادة النفوذ السوري فيه! وبما أن هذا هو واقع الحال، فإن الأرجح أن تتربص كل من سوريا وإيران، إلى حين سقوط الفريسة العراقية الجريحة في مأدبتهما كذلك. ومن هنا تنشأ أهمية مشاركة الدول الإقليمية الأخرى المجاورة، لاسيما الأردن والمملكة العربية السعودية ومصر والكويت ودول الخليج، بما لديها من تصورات وأفكار لحل الأزمة، بدلاً من التلذذ والاستمتاع بمشاهدتها للمأزق الأميركي في العراق. فما أقرب النيران إلى حدود هذه الدول في نهاية الأمر، وليس إلى حدود الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك فإن التخطيط لكيفية انسحاب القوات الأميركية من العراق، ليس مما يمكن تنفيذه بناءً على أي خطط مهلهلة، توضع كيفما اتفق. ومثلما هي عليه الصورة الفعلية اليوم، فإن هناك نسبة 60 في المئة من إجمالي الكثافة السكانية العراقية البالغة نحواً من 28 مليون نسمة، من الشيعة الذين أحكموا قبضتهم سلفاً على الشرطة والجزء الغالب من الأجهزة الحكومية وعملية صنع القرار والإنفاق المالي. وفي مقابل هذه السيطرة، يبدي المسلمون السُّنة قلقهم وخوفهم على مصالحهم، ويطلبون العون والمؤازرة أينما وجدوهما. أما الأكراد، فيعملون على تعزيز مواقعهم واستقلالهم الذاتي في شمالي البلاد. غير أنه في هذا النشاط الكردي، ما يثير حفيظة وغضب الجارة تركيا، بل ويشكل تحدياً سافراً لرفضها المطلق لأي مشروع يرمي لإقامة دولة كردستان في شمالي العراق، مخافة أن تغري بادرة كهذه، مطامع ونوايا أكرادها الأتراك، فيسعون لاقتفاء أثر قدوتهم في العراق. وبعد فهل نرى في كل هذا ما يطلقون عليه تسمية "الوضع الملتهب"؟ من جانبي أقول بلى، دون أدنى تردد. ولو أن ما يحدث اليوم في العراق، كان قد حدث في أي دولة من دول أفريقيا السوداء، لما أوليناه اهتماماً أقل مما يستحق. لكن أن يجري ما يجري الآن، في منطقة تشكل ثرواتها من الطاقة العالمية، نسبة 60 في المئة من إجمالي احتياطي الطاقة العالمي، بمكونيه من النفط والغاز الطبيعي، الكامنين في منطقة الخليج العربي، مع العلم أن جزءاً مقدراً من تلك النسبة يوجد في كل من العراق وإيران ودول الخليج، فإنه لم تعد أمام الأوروبيين ولا العرب فرصة الانتظار المريح الكسول، إلى حين بلورة الولايات المتحدة لحل، من شأنه تجنيب المنطقة ويلات الفوضى والانفلات الأمني. بل لقد أضحى من واجب العرب والأوروبيين، الإمساك بزمام المبادرة إزاء حل المعضلة، وإن كان ذلك بدافع التشبث بالبقاء وحفظ النوع.