في صربيا برز حزب قومي متطرف إلى أقصى حدود التطرف ويتزعمه مجرم حرب مدان، فأصبح الحزب السياسي الرئيسي في صربيا بموجب انتخابات الشهر الماضي، وفي هذا أحدث دليل على مدى تدهور الأوضاع في منطقة البلقان. الآن يتحول النجاح إلى إخفاق، وأعني التعاون الأميركي-الأوروبي الذي نجح في إنهاء حرب البوسنة والقمع الذي يمارسه الصرب في كوسوفو، وفي إعادة إعمار المنطقة. إن الوعد بتحقيق اندماج دول المنطقة في الاتحاد الأوروبي لا يكفي لتغيير منطقة البلقان؛ وإذا لم يكف الغرب عن تأجيل اتخاذ القرارات السياسية الصعبة أو عن اتخاذ القرارات السيئة، فإن احتمالات نجاح تحويل المسار المنطلق إلى الهاوية ستبقى مخيبة للآمال.
ومن المؤكد أن استئناف العمليات الحربية الرئيسية لا يلوح في أفق أي جزء من البلقان، لكن ذلك لا يبرّر إحالة المنطقة إلى حالة الركود التي أصبحت فيها، ولا سيما في ما يتعلق بالحكومة الأميركية، إذ لا يمكن الاكتفاء ببذل تلك الجهود الكثيرة والأموال الطائلة على محاولة إنتاج دول محترمة تؤدي وظيفتها وتقوم بدورها كدول. ولذلك فإن السياسة الغربية تخاطر الآن بخلق (ثقوب سوداء) مصغّرة تتفشى فيها التيارات القومية العنيفة والجريمة والارهاب.
فماذا كانت الأخطاء؟ فلنبدأ أولاً بالتطرق إلى (صربيا) وهي اللاعب الأكبر في البلقان.
ما زالت رائحة حكم (سلوبودان ميلوسوفيتش) النتنة تهيمن على (صربيا) التي حدث فيها ما لم يحدث في أي بلد من بلدان أوروبا الشرقية في مرحلة ما بعد الشيوعية، حين اغتيل رئيس الحكومة (زوران دجينجيتش) الذي قتله الصرب ليس لأنه أرسل (ميلوسوفيتش( إلى (لاهاي)، بل لأنه اتخذ الاستعدادات لمحاصرة ومطاردة العناصر الإجرامية التي ما زالت تتمتع بالنفوذ في صربيا ما بعد (ميلوسوفيتش)·
وعلى رغم المساعدات الغربية الكبيرة وتحقيق بعض التقدم عموماً، وفي مجال الاصلاح الاقتصادي خصوصاً، فإن (صربيا) ما تزال من حيث الأساس مستنقعاً سياسياً، إذ أنها تبقى دولة قومية أشبه بدولة مافيا بسبب إخفاق العناصر الإصلاحية في تنظيف البلاد وإخفاق الغرب في مواجهة الحقائق هناك. وقد تجنبت البلدان الغربية عموماً رهن مساعداتها بشروط، كما عاملت القوى الديمقراطية برفق ولين، ودأبت على الاستشهاد بالظروف المخففة التي تقلل من خطورة إخفاق تلك القوى في تحقيق وعودها كما تعامت عن فسادها مراراً وتكراراً.
وقد ارتكب الغرب خطأ فادحاً آخر بالسعي إلى الإبقاء على (مونتينيغرو) و(صربيا) في دائرة واحدة. وقد توجه الغرب إلى الدولتين من أجل حماية الحركة الساعية إلى إقامة (كوسوفو) مستقلة، ومن أجل إقامة دولة واحدة بدلاً من الدولتين لكي ينظر الاتحاد الأوروبي في مسألة انضمامها إليه. وهكذا حشر الغرب دولتين حقيقيتين في كونفدرالية غريبة لا تؤدي وظيفتها ومن المرجح أن تتلاشى إذا صار أمام (مونتينيغرو) مجال لإجراء الاستفتاء الموعود حول الاستقلال في عام 2005·
وقد أدى تأسيس دولة (صربيا-مونتينيغرو) إلى إبقاء زعماء البلدين في حالة انشغال طوال سنوات وتحويل انتباههم عن الإصلاح الداخلي، وإلى هدر الوقت والجهد على أوهام رجال الدولة الغربيين. والأسوأ من ذلك أن تلك المساعي أبقت (صربيا) مستغرقة في الماضي بدلاً من التوجه نحو مستقبلها والحاجة الماسّة إلى إحلال الديمقراطية في الدولة وإلى التخلص من العناصر الإجرامية.
ويضاف فوق ذلك عدول الغرب عن تحضير (صربيا) لمواجهة مأزقها في (كوسوفو)، بل إنه تعمّد التصرف وكأن السيادة الصربية في (كوسوفو) قابلة للاسترداد فعلاً. وبدلاً من تشجيع الصرب على قبول واقع خسارة (كوسوفو)، يقوم المبعوثون الغربيون في (بلغراد) حتى الآن بتشجيع زعماء (صربيا) على الاعتقاد بأنه ما زال لـ(صربيا) دور مهم في (كوسوفو). ويتمثل جزء من المبررات التي يقدمها الغرب بأن الحكومة الصربية الجديدة هشّة وينبغي عدم فعل شيء يعقّد الأمور أمامها بمناقشة مستقبل (كوسوفو). ومن المؤكد أن الحجة نفسها ستكون جاهزة في يد السفراء الغربيين عندما تحاول (صربيا) مرة أخرى تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات الأخيرة.
وقد تردّد الغرب وتعمّد تأجيل النظر في وضع (كوسوفو) النهائي، ببساطة لأن بعض الحكومات الغربية تعارض استقلال (كوسوفو)، لكن موقف معظم تلك الحكومات الديمقراطية يقول ببساطة:ما مبرر اتخاذ قرارات مؤلمة ونحن لسنا مضطرين إلى اتخاذها؟ على أن هناك قلة من البلدان المستعدة لتحمل التكاليف القصيرة الأمد في مقابل الفوائد الطويلة الأمد.
لقد أخفق الغرب في التحرك عندما كانت الامكانيات السياسية المتاحة للتحرك أعظم ما تكون، بل عقّد المشكلة بمواصلة إصراره -بعد مضي 4 سنوات- على أن حكومة كوسوفية منتخبة لن تستطيع إدارة البلاد وعلى وجوب اضطلاع الأمم المتحدة بالمهمة. وقد وضعت البلدان الغربية صيغة لمزيد من المماطلة بإصرارها على وجوب تحقيق (كوسوفو) لمعايير عجيبة تتعلق بالحكم الصالح حتى قبل أن تصير لديها حكومة فاعلة تتمتع بصلاحيات اتخاذ القرار.
لم يزعم أحد أن هناك حلاً سهلا