خلال الشهر الماضي انكبت الولايات المتحدة الأميركية على حث الجهود الرامية إلى وضع حد للعنف الدائر في لبنان بين "حزب الله" ورعاته من جهة, وإسرائيل من الجهة الأخرى. وفي الوقت ذاته، كان إصرارنا على أن الوقف الحقيقي لإطلاق النار يتطلب إجراء تغيير جوهري في واقع الحال الذي أفضى إلى الحرب. وفي يوم الجمعة الماضي تمكنا من اتخاذ خطوة كبيرة ومهمة في هذا الطريق, وذلك بإصدار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 بالإجماع. والآن ها نحن في مواجهة المهمة الأصعب والأهم, ألا وهي تطبيق القرار المذكور. ويشتمل الاتفاق الذي توصلنا إليه على ثلاثة عناصر أساسية, أولها وضع حد شامل لكافة التحرشات والاعتداءات المتبادلة بين الطرفين. كما شمل هذا العنصر, إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين اللذين اختطفهما "حزب الله" دون قيد أو شرط. ونص البند كذلك على ضرورة التزام "حزب الله" بوقف هجماته على إسرائيل, التي يتعين عليها بدورها وقف عملياتها العسكرية ضد لبنان. وتضمن البند كذلك الإقرار بحق أي دولة ذات سيادة بحماية نفسها وأراضيها. يذكر أن هذا الاتفاق قد دخل إلى حيز التنفيذ عملياً يوم الاثنين الماضي, إثر توقيع مجلسي وزراء كل من لبنان وإسرائيل على شروطه وبنوده. ثانياً: إن هذا الاتفاق سيمكن الحكومة الديمقراطية اللبنانية من توسيع نطاق سلطاتها السيادية, وذلك بنصه على حظر دخول أي أسلحة إلى الأراضي اللبنانية دون موافقة الحكومة. إلى ذلك فقد عزز الاتفاق القوة الدولية الموجودة حالياً هناك ودعا إلى تجديدها, بحيث تتمتع بتفويض أكبر ومعدات عسكرية أفضل, إلى جانب زيادة عدد أفرادها لتصل إلى 15 ألف جندي, أي بزيادة عددها الحالي بنحو سبعة أمثال ما هي عليه الآن. والفكرة هي أن يتم نشر هذه القوة الجديدة جنباً إلى جنب مع القوات الحكومية اللبنانية على الشريط الحدودي الجنوبي للبلاد, منعاً لأي مليشيات أو جماعات مسلحة مثل "حزب الله" وغيره من زعزعة استقرار لبنان وأمنه في المستقبل. وما أن يتحقق هذا على الأرض, حتى يتعين على إسرائيل الانسحاب إلى ما وراء "الخط الأزرق"، ويبدأ سريان وقف دائم لإطلاق النار بين الجانبين. وبهذا نصل أخيراً إلى العنصر الثالث من الاتفاق, وهو المتمثل في وضع اللبنات السياسية التي يقوم عليها إحلال السلام الدائم هناك. فلا أسلحة ولا سلطة لأحد عدا عن تلك المخولة للحكومة السيادية اللبنانية وحدها. وتمثل هذه المبادئ روح الإجماع الدولي الذي جرى تأكيده مراراً عبر الحقب والعصور, ولكن دون إنزاله منزلة التطبيق والممارسة مطلقاً. وها هي المرة الأولى التي يضع فيها المجتمع الدولي يده وثقله كله على وضع إطار سياسي يمكن الحكومة اللبنانية من تطبيق هذه المبادئ, بما فيها نزع أسلحة كافة المليشيات العسكرية وشبه العسكرية الناشطة في أراضيها. والحقيقة أن المكاسب التي ينطوي عليها تطبيق القرار رقم 1701 لا تقتصر على لبنان وإسرائيل وحدهما, بل إن له تداعياته الإقليمية المهمة أيضاً. فهو بمثابة انتصار لكافة قوى الاعتدال والديمقراطية في الشرق الأوسط من جهة, وهزيمة ماحقة لكافة القوى العازمة على تقويض هذه المبادئ بأدوات العنف, لاسيما حكومتي سوريا وإيران. فبينما أمضى العالم بأسره الشهر الماضي في الدأب والعمل المتواصل من أجل إحلال السلام في لبنان, سعت دمشق وطهران من جانبهما في اتجاه إطالة أمد الحرب وتأجيج نيرانها. وفي آخر مرة نشبت فيها حرب مماثلة قبل 10 سنوات في المنطقة, كانت واشنطن قد توسطت من أجل وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل. وعليه فقد جرت اللعبة الدبلوماسية بالوكالة لا أصالة عنهما. غير أن لبنان تحرر اليوم من أي نفوذ سوري, في حين تتواصل جهود المجتمع الدولي الرامية إلى مساعدته في تهيئة المناخ الملائم لإحلال السلام الدائم في أراضيه, وكذلك في استكمال سيادته الوطنية وتعزيز ديمقراطيته, في مقابل إضعاف موقف "حزب الله" وتضييق فرص إعادة التسلح أمامه. ولذلك فما أن يتم تطبيق هذا الاتفاق ويتحول إلى واقع عملي ملموس, حتى يشكل انتكاسة استراتيجية كبيرة لآمال وطموحات كل من النظامين السوري والإيراني. ولا ريب في أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه يوم الجمعة الماضي يعد خطوة كبيرة ومهمة, بيد أنه ليس سوى بداية وخطوة أولى على هذا الطريق. وعلى الرغم من أننا نأمل فيه أن يمثل أساساً لوقف دائم لإطلاق النار, فإنه ما من أحد يتوقع توقفاً تاماً لأعمال العنف والتحرشات التقليدية بين أطراف النزاع. وعليه يمكن القول إن الوقف الحالي لإطلاق النار لا يزال هشاً وضعيفاً, ولابد لكافة الأطراف من العمل على تقويته وتعزيزه. وإذا كانت دبلوماسيتنا قد وفقت في وضع حد للحرب, فقد بقي الآن واجب العمل الشاق والطويل من أجل توطيد السلام. ولعل التحدي الأكبر والأكثر إلحاحاً الذي نواجهه الآن هو مساعدة مئات الآلاف من النازحين واللاجئين اللبنانيين في العودة إلى بيوتهم والبدء ببناء حياتهم من جديد. لذلك واستشعاراً منا لهذا الواجب, فقد عمدنا إلى رفع قيمة مساهمتنا الإنسانية إلى 50 مليون دولار. ولا سبيل لتأمين مكاسب السلام من مساعدة اللبنانيين على الخروج من هذه المحنة بالمزيد من الفرص والازدهار الاقتصادي. ليس ذلك فحسب, بل ها هي الساعة قد حانت لوضع حد لمعاناة المدنيين على امتداد الشرق بأسره, من ويلات المتطرفين والمتشددين. فهل نكون على قدر التحدي والطموح؟ كوندوليزا رايس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزيرة الخارجية الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"