من أبرز الأشياء التي لفتت انتباهي في ندوة "حال الإعلام العربي" التي نظمها "نادي دبي للصحافة" الأربعاء الماضي: ممارسة النقد الذاتي من القائمين على الإعلام العربي نفسه وبكل أطيافه، مسؤولين حكوميين وخبراء وصحافيين وحتى ممولين، والجمهور أيضاً، أي أن النقاشات لامست قمة العمل الإعلامي العربي وقاعدته. وكما رأيت فقد مورس هذا النقد بحرية تامة وأدى إلى تشخيص دقيق لأوجاع الإعلام في العالم العربي ومواطن خلله، وذلك على مدى يوم كامل في جو سادته الصراحة والموضوعية، وخرج الحضور بقناعة مفادها أن الإعلامي العربي يعاني عجزاً في تطبيق مبادئ الموضوعية والحياد الإعلامي أثناء تأدية عمله.
وسمحت آلية إدارة المنتدى والكيفية التي جاءت بها جلساته في إثارة رغبة رواد الإعلام العربي في مناقشة عيوبه في كافة تخصصاته، المرئي منها والمقروء وحتى المسموع، وأدى ذلك إلى فتح الكثير من الملفات لمواطن الخلل وحالة العجز التي يعاني منها "الإعلام العربي" كما نوقشت عيوب أدائه خاصة خلال الجلسات المتخصصة التي أسهمت -برأيي- في تجاوز الحساسيات والمجاملات التقليدية، وبالتالي تمت مواجهة وقائع معينة سواء بطريقة مباشرة أو عن طريق إرسال إشارات معينة بين البعض من الإعلاميين، فهم الكثيرون مغزاها، كما تمت مواجهة تسييس المنابر الإعلامية العربية والهيمنة عليها من قبل الحكومات العربية.
ولو تحرينا الصدق قليلاً في الفعاليات الحوارية والنقاشات التي تنعقد حول الإعلام العربي الذي أصبح العنوان الأكثر تداولاً هذه الأيام، سنجد أنها تشترك في بعض الملامح التي تكاد تتكرر في كل مرة تنعقد فيها المؤتمرات بل إني أذكر أن البعض من المتحدثين ذكر في الندوة الأخيرة أنه "لا جديد في الإعلام العربي"، واتفقت الآراء على أن "حال الإعلام العربي" لا يرتقي إلى المستوى المطلوب بل إن مخرجاته وتأثيراته لا تتناسب مع حجم الإنفاق المادي له. وما يبعث على القلق أن الكثير من تلك الندوات لا تخرج عن الاكتفاء بكشف مواطن الخلل ووصف مظاهر حالة الإعلام العربي بالعجز، والسبب هو المبرر الجديد القديم: الضغوط وآليات الرقابة الحكومية.
التساؤل الذي يطرح نفسه هنا إذا كان النقد الذاتي، باعتباره أحد مقومات التقدم في أي مجال، هو المحرك الرئيس والقاسم المشترك لكل تلك الندوات والمؤتمرات المنعقدة، فإن الجميع ينتظر من هذه الأنشطة الفكرية أن تنتقل من دائرة "الكلام" والتشخيص طالما هناك قناعة بأهمية التغيير، إلى مرحلة العمل الإجرائي والخططي لإصلاح ما يجب إصلاحه في "الميدان" الإعلامي، خصوصاً أن من يتحدث ويشخص ويكشف تلك العلل هم قيادات إعلامية مسؤولة أو على الأقل تمتلك قدرة التأثير والفعل وتحريك المياه الراكدة. والمنطق، بعد كل هذه المناقشات، يقتضي البدء في إصلاح حال الإعلام العربي بحلول واقعية ناتجة من البيئة الإعلامية نفسها سواء بتغيير الدور الذي يجب أن يلعبه الإعلام العربي لتقليل الفجوة بينه وبين الإعلام الغربي مهنياً وتقنياً، أو تقليل الفجوة بين الإعلام وبين المجتمعات العربية أو جمهوره الذي يبحث عن "الصدقية الإعلامية" في وسائل الإعلام الأجنبية.
لن نستطيع إحراز أي تقدم بتكرار الحلقات النقاشية أو تكثيفها دون "البدء عملياً" بالإصلاح، فإذا كان تشخيص الحالة ووصف العلاج مرحلة مهمة فإن الأصعب هو البدء في التغيير وتجرع الدواء وهذا هو المطلوب الآن. فالإيمان بالتغيير لابد أن يواكبه عمل والتداول في السلطة الإعلامية العربية وينبغي أن ينتقل العمل من دائرة التمني إلى دائرة الفعل والممارسة.
وحتى تكتمل حلقة الإصلاح والتطوير، لابد أن يتزامن ذلك النقد الذاتي مع الحديث عن جدول أعمال واضح ومحدد للبدء فيه وأن نحدد هوية من سيقوم بتنفيذ هذا الجدول... هل هم السياسيون أم الإعلاميون؟ وفي الحالتين يجب ألا يراهن الإعلاميون على أن يأتي التغيير من الحكومات، بل يجب أن تنبع التجربة الإعلامية الجديدة من داخل الإعلاميين أنفسهم.