سيدخل تاريخ 25 يناير 2006 كأحد المواعيد المهمة في التاريخ السياسي الفلسطيني، باعتباره سجل نهاية حقبة دامت نصف قرن تميزت بهيمنة الثقافة السياسية العلمانية على الحركة الفلسطينية الوطنية ودشن عهدا جديداً غير مسبوق تهيمن عليه ثقافة سياسية جديدة توظف المفردات الإسلامية في خطابها السياسي· ولا أعتقد أن نتائج الانتخابات الفلسطينية التي جاءت بحركة ''حماس'' إلى السلطة بعد سنوات من وقوفها في المعارضة والعمل المسلح سوف تنحصر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل ستتعداها إلى عموم منطقة الشرق الأوسط، وستطال أيضا باقي الحركات العالمية التي تنشد التغيير، لما أصبحت تشكله القضية الفلسطينية من رمز يحيل إلى الجانب القاتم من الحالة السياسية في العالم المعاصر، وإلى ما بات يشكله الصراع في فلسطين من آلة قياس تجس طبيعة السياسات واتجاهها في القرن الحادي والعشرين· وحسب النتائج أحرزت حركة ''حماس''، فوزاً ساحقاً بحصولها على 76 مقعداً من أصل 132 التي يتكون منها المجلس التشريعي الفلسطيني، بينما حازت حركة ''فتح'' على 43 مقعداً·
ويعني فوز ''حماس'' في الانتخابات التشريعية واكتساحها للحياة السياسية الفلسطينية بهذه الطريقة غير المتوقعة سيطرتها على أغلب مؤسسات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، فضلاً عن أنها ستكون المسؤولة الأولى عن إدارة شؤون الفلسطينيين في المناطق الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي· وسيتعين على ''حماس'' تطبيق برنامجها السياسي على أرض الواقع بما يخدم مصالح الشعب الفلسطيني، ويساهم في تحسين أوضاعه المعيشية المتردية· بالإضافة إلى ذلك سيعطي فوز ''حماس ''في الاستحقاقات الفلسطينية زخماً إلى التيار الإسلامي الفلسطيني سواء في الخارج، أو داخل إسرائيل بين المواطنين العرب·
ولا شك أن اعتلاء حركة ''حماس'' للسلطة سوف يمتد أثره إلى مناحي الحياة الأخرى، لا سيما الجوانب الثقافية والاجتماعية مثل المناهج الدراسية وقانون الأحوال الشخصية، ثم المسائل الأخلاقية التي كانت تسعى ''حماس'' في السابق إلى التأثير عليها· ويندرج في هذا الإطار ما تردد على لسان أحد القيادات في حركة ''حماس'' الذي أعلن بعد ظهور نتائج الانتخابات أن حركته تعتزم، من بين أمور أخرى، أسلمة المجتمع الفلسطيني· أما فيما يخص طبيعة العلاقة التي ستجمع الحركة مع إسرائيل فإنه لا شيء جوهريا سوف يتغير عدا أن الأقنعة سوف تسقط وتنكشف الحقيقة المتمثلة في أن كلمات مثل ''برلمان'' و''حكومة'' لا تكتسي معنى حقيقيا على أرض الواقع إلا في ظل سيادة فعلية يتمتع بها الشعب الفلسطيني فوق أرضه· أما وأن الاحتلال مازال جاثماً فوق صدور الفلسطينيين طيلة السنوات السابقة، فإن الحديث عن مؤسسات دولة حقيقية لم تقم بعد يصبح مجافياً للواقع والمنطق· والأكثر من ذلك أن إسرائيل كانت على الدوام تتبنى سياسة تقوم على تجاهل الفلسطينيين وإنكار وجودهم· وهي السياسة ذاتها التي عبر عنها شارون في السنوات الأخيرة بتلك العبارة التي سكها من وحي معجمه المتشدد: ''لا يوجد شريك فلسطيني لتحقيق السلام''· وبالرجوع إلى تاريخ العلاقة بين إسرائيل والشعب الفلسطيني ستتبدى بجلاء سياسة التجاهل التي انتهجتها السلطات الإسرائيلية اتجاه الشعب الفلسطيني بدءا من رئيسة الوزراء جولدا مائير التي قالت ذات يوم أنه لا وجود للفلسطينيين، وانتهاء برفض الاعتراف بـ''منظمة التحرير الفلسطينية''، التي كانت تتولى الدفاع عن مصالح الشعب الفلسطيني، وتهدف إلى تحرير أراضيه إلا بعد اتفاق أوسلو سنة ·1993 ومع ذلك استمرت غطرسة الجانب الإسرائيلي وتجاهله لرموز الشعب الفلسطيني حتى بعد اتفاق ''أوسلو''، فسرعان ما ظهرت عبارة ''لن نتفاوض مع عرفات''·
واليوم وقد فازت حركة ''حماس'' في الانتخابات وتغير المشهد السياسي الفلسطيني، يتعين علينا الإقرار بأن الحركة ليست مسؤولة في حد ذاتها عن تقويض عرى السلطة الفلسطينية وحركة ''فتح''، بل يعزى ذلك إلى عدم احترام الجانب الإسرائيلي لالتزاماته في عملية السلام ونكوصه المتكرر عن تعهداته للانسحاب من الأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة· ومن جهتها ساهمت حركة ''فتح'' في الهزيمة القاسية التي منيت بها جراء الجشع الذي ميز بعض أجهزتها ما أعماها عن إصلاح الأخطاء والنأي بنفسها عن الفساد الذي بات يلطخ سمعة ''فتح'' ويحط من قيمتها في أعين الشعب الفلسطيني· وكل ما أخشاه اليوم بعد فوز ''حماس'' أن تواصل إسرائيل خطواتها أحادية الجانب بحجة عدم وجود شريك للسلام ما سيتيح لها فرصة مواتية لفرض المزيد من الحقائق على أرض الواقع في تجاهل كلي لحقوق الشعب الفلسطيني· هذا ولن نستطيع فهم نتائج الانتخابات الفلسطينية دون النظر إلى الصورة في شموليتها· فبعد التوقيع على اتفاق ''أوسلو'' تدهورت حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة على نحو كارثي بسبب السياسات الإسرائيلية· وفي تلك الأوقات العصيبة لم يكن أمام الفلسطينيين سوى التضرع إلى الله بأن يحمي مجتمعهم ويمنحهم