كانت قضية التوطين تواجه صدودا ومبررات واهية تنطلق من المكاتب الوثيرة في الأبراج العاجية ذات الطوابق التي كادت تطاول السحب، وخاصة تلك الأقاويل التي دائما ما كانت توجه الصفعة تلو الأخرى ناعتة الشباب المواطن بالتواني والكسل وعدم الانضباط والبحث عن كرسي المدير· التبرير الواهي كان يحرم مواطنا من فرصة عمل، في مقابل أن تصرف الأرباح المليونية نهاية العام في أوجه لا يعلم بها إلا الله·
إزاء هذا الصد المتعمد وإزاء سطوة المال كان من الممكن أن تتعطل عجلة إيجاد مخرج لمعضلة طوابير المواطنين العاطلين عن العمل، والذين وصل الرقم المتداول لهم لأكثر من 35000 شاب وشابة معظمهم يحمل شهادات علمية جامعية وخبرات إدارية ولغة أجنبية·
جاء موضوع توطين مهنة مندوب العلاقات العامة ليصب زيتا حارقا أو ربما جالون بترول على أصابع الراجفين والمتخوفين من العمالة المواطنة، وتحت مطرقة الفرض بالإكراه استسلم البعض ليس تجاوبا مع فكرة التوطين ولكن حفاظا على دورة رأس المال، وحفاظا على مصالح شركاتهم· على طريقة البرنامج التلفزيوني المثير للغرابة (صدق أو لا تصدق)
Believe it or not تقول الأخبار المؤكدة لا الإشاعات المغرضة إن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نجحت في تسجيل أكثر من 757 مواطنا ومواطنة في مهنة (مسؤول علاقات عامة)، لاحظوا معي الاستخدام الذكي للتعريف بدلا من مندوب علاقات عامة وما لهذا التعريف من أثر نفسي واجتماعي على المهنة ذاتها وعلى نفسية القائم بها· إن استجابة نحو 150 شركة تستحق الثناء والتقدير ولكن تقاعس العدد المتبقي من مجموع 2600 شركة ينطبق عليها القرار يحتاج إلى حزم من نوع آخر· أعتقد أنه لم يغب عن بال الوزارة في توجهها الجديد لتحديد أولويات المواطن الباحث عن العمل، خصوصا إذا عرفنا أن جل هذه الشركات مملوكة لأجانب والعنصر المهمش فيها هو المواطن صاحب الرخصة، الذي يرمى له بفتات الفتات آخر كل عام نظير التوقيع على معاملات الوزارات المختلفة وقروض البنوك التي ربما يتورط فيها بعد هروب المكفول·
صدق أو لا تصدق أن 757 شابا وشابة يمارسون مهنة (مسؤول علاقات عامة) وأن الوظيفة جاءت لهم على طبق من ذهب قدمته لهم وزارة العمل، بعد قرار حكيم في اتجاه التوطين الحقيقي لا التوطين العاطفي· لقد أسقط في يد الهوامير وأصبح الأمر مقضيا فإما أن يكون مسؤول العلاقات مواطنا أو أن المعاملات لن تتحرك قيد أنملة في وزارة العمل وتتوقف المصالح·
أتصور أنه خيار صعب واجهته وزارة العمل ولكنها بادرت بركوب الصعب وعدم الاستسلام لسطوة شركات تجني الملايين دون أن ترد لهذا الوطن المعطاء جزءا ولو يسيرا من خير عميم تكاثر حتى أصبح مليارات، وهو رد للجميل في أبسط صوره وأجمل معانيه، ولكن شهوة الاكتناز أعمت البصيرة قبل البصر، وجاء قرار الوزارة ليوقظ الكثير من الضمائر التي تجمدت قبل أن تموت فيها نخوة العطاء والبذل، إلا ذلك العطاء المصحوب ببهرج الإعلام وومضات فلاشات التصوير والبوفيهات الفاخرة·
الخبر اليقين في منهج التوطين يقول إن الوزارة ستواصل السير في النهج واضعة المواطن والوطن في أعلى درجات سلم الأولويات وإن التجربة ستعمم ليكون التوطين منهجا وفكرا وقدرة على إعادة الأمور إلى نصابها وإيقاف شهوة الاكتناز عند البعض وتوفير فرص عمل شريفة لأعداد المواطنين وهم كثر وقد يكون هم معالجة مشاكلهم الأمنية والنفسية فيه هدر لمال كثير وجهد أكبر لحماية مكتسبات الوطن قبل أن يتحول الخريج العاطل عن العمل إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار تحت وطأة الحاجة والعوز·
لا أود وتحت أي مبرر أن يكون حكمي على التجربة عاطفيا ولكن برامج التوطين في كل الدول ولنا في التجربة العمانية مثل يحتذى به، أقول كل التجارب لم تك ولن تكون مطالب عاطفية واستجداء لا نفع منه، ولكن يجب أن يكون التوجه القادم لحكومة يدير دفتها رجل عرف بمهاراته الإدارية منهجا في إلزام هذه الشركات وكافة المؤسسات بأن يكون للعنصر المواطن في خيرها نصيب، وهو منهج نابع من استراتيجية طويلة الأمد للحفاظ على هوية وثقافة الوطن ومنح المواطن فرصة للعطاء والعمل ورد الجميل ويغدو من باب التهويم أن ننشئ مدارس ومعاهد وجامعات ونخرج عشرات الآلاف من المواطنين ومن ثم نطالب الحكومة بأن تجد لهم وظائف بينما القطاع الخاص يستورد ملايين الأيدي العاملة، ولا يخصص ولو نسبة مئوية متواضعة من أرباحه لإيجاد فرصة عمل واحدة أو اثنتين لمواطن كل متنه من طرق أبواب المسؤولين، أو حفيت قدماه جريا وراء سراب وظيفة تحتاج إلى بلدوزرات الواسطة لتحريك الملف من فوق المكاتب·
ليس رجما بالغيب ولكن الأرقام تؤكد أن أعداد المواطنين القادمين من الجامعات المحلية والعربية والعالمية في ازدياد وإذا لم يصر إلى إيجاد آلية حقيقية لإدماج هذه الأعداد في سوق العمل فإن خطرا داهما يتهدد الوطن· خطر أمني واقتصادي وقيمي وثقافي واجتماعي، مع رجاء طرح التبريرات المغلوطة بعيدا والتوجه بروح الفريق الواحد بين الحكومة والتجار وأصحاب الأعمال لتسير السفين