المثقف، مع التجاوز عن تفسير المصطلح وتداعياته، يحاول دائماً أن يوصل فكرته بشفافية وحب وكأنه يغرد، أو كما قال المعري، يسجع كالحمامة، يحمل أفكاره ويتبناها، ويحاول إيصالها سلمياً· أما السلطات السياسية في بعض بلدان العالم الثالث، والتي تدعي الديمقراطية، ومن موقع القوة، فإنها ترد على سجع الحمامة بزئير الأسد في أغلب الأحيان، وفي بعض الأحيان، تحاول أن تحول سجيع الحمائم إلى أنشودة يتغنى بها الأطفال في طابور الصباح· إنها علاقة مشدودة متناقضة متداخلة، على طرفيها يقف المثقف حاملاً رؤيته للمستقبل، وفي الطرف الثاني تقف السلطة متشبثة بمواقفها وآرائها·
أية علاقة صحيحة وفق تبادل المصالح يمكن أن تمنح المثقف القدرة على التغيير وفق نهج الإصلاح ووفق رؤيته للمستقبل· عندما يكون المثقف هو الفكر، وهو طليعة المجتمع والقادر على إثارة الأسئلة الصعبة في الزمن الصعب، وتبيان الحقائق، ويكون في طليعة رمح التغيير، وسيف اجتثاث الفساد، فإنه بهذا التصنيف المتواضع، دون الإخلال بأهمية الدور، يكون عرضة -في كثير من الأحيان- لبطش السلطة، ويكون مصيره، في بعض بلدان العالم الثالث، تكسير الأصابع والقلم أو جز اللسان وخنق الميكروفون أو تهشيم عظام الصدر لإخراج القلب الذي يمكن أن ينبض بالطهر والعفة· هذا مظهر من مظاهر استبداد السلطة، وقتلها للمثقف الذي يرفض الانصياع لها·
المظهر الثاني لثنائية العلاقة بين المثقف والسلطة، يكمن في قدرة المثقف على التأرجح طويلاً فوق الحبال المشدودة، يتأرجح عالياً بينما هو ينحدر متحولاً لانتهازي حقيقي وقانص للفرص، في موقف ميكيافيلي، لا ينتمي للموقف البطولي، أو حتى لفروسية المثقف الطليعي·
عندما ينحدر المثقف إلى مستوى التقاط الفتات من على الموائد في علاقة الاحتواء التي تمارسها السلطات السياسية، عندها يكبر الخطر الكامن في توجيه الرأي العام، ويكون خدش صورة ومصداقية هذا المثقف محل سؤال عريض وممتد في الذاكرة الجمعية للناس، الذين كانوا يعتقدون أن المثقف هو صوتهم وضميرهم الواعي، القادر على نقل نبضهم، من خلال قصيدة أو لحن أو لوحة أو مقالة أو كتاب·
سقوط المثقف وتحوله إلى بوق للسلطة يثير في النفس كوامن وصوراً متعددة لمهارات التلون والتماهي مع واقع البطش أو واقع الاحتواء، الذي نجحت فيه الكثير من السلطات، لغرض إقصاء المثقف عن مسرح فعل التغيير، واجتزاء مقاطع كثير من الذاكرة الجمعية لحركة المثقف لقيادة الجموع، لإحداث حراك مجتمعي، حماية لكل مكتسب يصب في خدمة الإنسان·
إذا كانت الثقافة ومعولها المثقف أعلى أشكال الفعل الإنساني النابض بالقدرة على تقديم الخير للإنسان، فإن انحدار المثقف إلى درك التحول إلى بوق أو آلة في يد السلطة، يعتبر كارثة، وخاصة عندما يحاول المثقف، في بعض بلدان العالم الثالث، بقدراته على التواصل مع نبض الشارع، تقديم تبريرات واهية لكل ممارسات السلطة، حتى وإنْ كانت قمعية أو منتهكة لحقوق وحرية الإنسان·
في التصنيف يقع المثقف الانتهازي في أدنى مرتبة، عندها يفقد المثقف قدرات كثيرة تمتاز بها الثقافة الحقة، ومنها دلال الحوار و الإقناع في مواجهة دلال القوة والنفوذ، الذي تتمتع به السلطات السياسية في كل زمان ومكان· المثقف الحقيقي هو القادر على إحداث حراك اجتماعي وإقامة علاقة تضامنية مع السلطات السياسية، عندما يكون الهم هو الوطن والإنسان· هذا المثقف الواعي هو القادر على تحويل السياسي إلى مثقف، دون الانزلاق كثيرا في شبهة النفاق والتملق·
علاقة التبرير والتملق تسقط المثقف من حسابات الفعل المنجز للبعد الإنساني لقدرات الكلمة والرأي الحر لإنجاز المشروع الخاص بالإنسان وحقوقه، وخاصة في الدول التي تفتقد أدنى درجات الشفافية وغياب المؤسسات المدافعة عن الحقوق وصيانتها·
المثقف الحقيقي هو الذي يعيش هموم مجتمعه، ويتحسس نبض الشارع، ولا يلقي بالاً لحاجاته الخاصة والأنانية والآنية، ويستطيع أن يقبض على الجمر، ولا يتطلع لأبراج زجاجية شاهقة، ولا يحلم بسيارة فارهة·
المثقف الحقيقي، هو الذي يرى بواسطة عدسة ضميره الكاشفة مقدار معاناة امرأة فقيرة، وهي تقف في طابور المستشفى، لاستلام دواء الضغط والسكر وخفقان القلب وتصلب الركب، بينما يدلف هو من الباب الخلفي للصيدلية متسلحاً بعلاقاته·
لا يمكن، وتحت أي مبرر، إقامة علاقة بريئة بين المثقف والسلطة السياسية بناء على تغاير المنهج، وخاصة في بنية وتكوين السلطات الشمولية في بعض بلدان العالم الثالث، فالسلطــة الشموليـــة القمعية، تقاتـل -وبشراسة- لتحويل الفعل الثقافي إلى منجز إعلامي ومشهد خبري يروج لها، وحتى وإنْ كان هذا المنجز يتعلق بصيرورة الفعل الثقافي· أما المثقف، فإنه يسبح هائماً في فضاءات من الحرية وعلى حد قول تشيخوف ''لا تتجسد أصالة الكاتب في أسلوبه فحسب، وإنما في طريقة تفكيره وقناعاته''· هذه القناعات مبنية على وعي حقيقي بالمعاناة الإنسانية في بعدها القيمي، وفي قدرة الإنسان على تحديها·
مهمة المثقف النقدي شاقة، وربما تكون