يقضي الإنسان العادي ثلث حياته وهو يغط في نوم عميق· ولكن رغم هذه الأهمية المحورية للنوم في الحياة البشرية، لا زالت المعرفة الطبية بطبيعة النوم وفوائده، قاصرة إلى حد كبير· فالإنسان الذي تمكن من الهبوط على سطح القمر، ومن استنساخ الحيوانات والنباتات، لا زال غير قادر على إجابة السؤال البسيط: لماذا ننام؟ فالآراء المطروحة للإجابة على هذا السؤال حتى الآن، لا تزيد على كونها نظريات، تفتقد الإثبات العملي· وربما كان أشهر تلك النظريات وأكثرها قبولا في الأوساط العلمية، هي نظريات التجديد أو الشفاء (Restorative Theories). هذه النظريات تدفع بأن النوم عملية ديناميكية، تقوم خلالها الخلايا والأعضاء بالنماء والازدياد، مما يساعد الجسم على الاستشفاء والالتئام· ويعتمد أصحاب هذه النظرية في رأيهم هذا، على حقيقة حدوث زيادة في مستويات هرمون النمو خلال المرحلتين الثالثة والرابعة من النمو، وهي الزيادة التي تترافق مع تغيرات جوهرية في وظائف جهاز المناعة· ولذا، وبالاعتماد على التغيرات الحادثة أثناء فترات النوم، يمكننا أن نصف النوم بأنه مرحلة ابتنائية (anabolic stage)، تتميز بعمليات فسيولوجية خاصة· تهدف إلى نمو وتجديد العديد من أجهزة وأعضاء الكائن الحي، مثل جهاز المناعة، والجهاز العصبي، والجهاز الحركي المتمثل في العظام والعضلات· فعلى سبيل المثال، يساعد النوم على ترميم وتجديد الخلايا العصبية، وزيادة إنتاج بعض البروتينات والهرمونات من المخ، والتي تلعب جميعها دورا مهما في الحفاظ على استقرار وكفاءة الجهاز العصبي· وبالتالي تصبح مرحلة اليقظة مجرد مرحلة انتقاضية من النشاط الزائد (catabolic stage)، يسعى الكائن الحي خلالها للحصول على ما يلزمه من ماء وغذاء، وينتهزها للتناسل والإنجاب· ووفقا لهذا المفهوم، ربما يجب علينا إذن أن نعيد صياغة السؤال الأول، ليصبح: لماذا نستيقظ؟ فإذا ما كان النوم هو مرحلة النمو والبناء، وكان الاستيقاظ هو مرحلة الهدم والنقض، يصبح النوم هو الحالة الاعتيادية، والاستيقاظ هو الحالة غير الاعتيادية، والضرورية فقط للحصول على الغذاء والحفاظ على النوع· هذا المفهوم، الذي يقع إلى حد كبير ضمن نطاق الفلسفة، يدعمه حقيقة، من وجهة نظر أنصاره، عدم حدوث ضرر للجسم، إذا ما استغرق الشخص في النوم لعدة أيام، وفي نفس الوقت تعرض الجسم لضرر بالغ، إذا ما حرم من النوم لعدة أيام·
هذه الحقيقة لم تغب عن أذهان زبانية التعذيب منذ بدايات التاريخ وحتى الزمن الحالي· فالمعروف أن الحرمان من النوم يعتبر أحد أقدم وسائل التعذيب على الإطلاق· وفي العصر الحديث، وفي السنوات الأخيرة بشكل خاص، شهد التعذيب من خلال الحرمان من النوم، زيادة مطردة في الاستخدام· وهذه الزيادة الحديثة للحرمان من النوم كأسلوب في التعذيب، نتجت من آثاره العقلية والنفسية الفادحة على الضحايا، ودون أن يترك آثارا جسدية واضحة عليهم، يمكن أن تستخدم لاحقا لمقاضاة من مارسوا التعذيب· وكي ندرك مدى فداحة التعذيب من خلال الحرمان من النوم، ومدى اتساع نطاق آثاره على الجسم، يجب أن نقسم هذه الآثار إلى قسمين: قسم الآثار النفسية والعقلية، وقسم الآثار الجسدية· في قسم الآثار النفسية والعقلية، نجد أن الحرمان من النوم لفترات طويلة يؤدي إلى انخفاض في القدرات الحسية، مع ارتباك في القدرات العقلية، والوفاة في النهاية· هذه الآثار تظهر في شكل تهيج وعصبية، وعدم وضوح الرؤية، وتلعثم في الكلام، وفقدان للذاكرة، مع ارتباك ذهني عام، والتعرض للهلوسة السمعية والبصرية، ثم الغثيان والقيء، وفي النهاية الإصابة بالذهان، والوفاة· وحتى إذا لم يدفع الشخص للوصول إلى هذه النهاية الرهيبة، وتم تعذيبه فقط من خلال حرمان جزئي من النوم، فغالبا ما يصاب في النهاية بتغيرات دائمة في الشخصية ترافقه مدى الحياة، وربما حتى الإصابة بالعته العقلي· ومثل هذه الآثار العقلية والتغيرات النفسية القوية التي يحدثها الحرمان من النوم، حفزت علماء النفس على استخدام هذا الأسلوب في علاج بعض الأمراض العقلية، مثل الاكتئاب المزمن·
أما على صعيد الآثار الجسدية، فقد تم توثيق تسبب الحرمان من النوم في زيادة احتمالات الإصابة بداء السكري، وبالسمنة، وبالقصور في الوظائف الحركية· ففي دراسة أجراها في التسعينيات أطباء المركز الطبي التابع لجامعة شيكاغو (University of Chicago Medical Center)، ظهر أن الحرمان من النوم يؤثر سلبا بشكل كبير في قدرة الجسم البشري على التعامل مع الجلوكوز، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى الإصابة بالمراحل المبكرة من داء السكري· وفي عام ،2005 ومن خلال دراسة كبيرة أجريت على حوالي عشرة آلاف شخص، اشتبه العلماء في أن وباء السمنة الذي ينتشر حاليا في الولايات المتحدة، ربما يكون أحد أسبابه هو انخفاض عدد الساعات التي أصبح الأميركيون يقضونها في مخادعهم، كنتيجة لطبيعة الحياة في المجتمعات المدنية الحديثة· ويعتقد العلماء أن انخفاض عدد ساعات النوم يؤدي إلى السمنة، بسبب ما ينتج عنه من اضطرابات في