بدأ المذيع نشرته الإخبارية على إحدى الفضائيات أول أيام عيد الفطر المبارك، قائلاً: صدقوني، هذه المشاهد من منطقة في ضواحي باريس مدينة النور والإشعاع والحرية، وليست من بغداد، حيث الانفجارات سيدة الموقف والحاكم بأمر البلاد والعباد·
مدن على ضفاف السين تشتعل غضباً وحقداً وغلاً، لا تستطيع الشرطة السيطرة عليه، وتترك وزير الداخلية ساركوزي في حالة من التوتر فيخرج عن حدود الأدب، ليصف من تسبب بالحرائق وأعمال الشغب بـ''الأوباش''·
ومع الأسف، فإن هؤلاء ''الأوباش'' يحملون الجنسية الفرنسية، ويشربون من نهر السين، لكنهم لا يستطيعون كل صباح التوجه إلى العمل بعد رش الوجه واليدين بالعطر الفرنسي، لأنهم لا يملكون هذه الرفاهية·
''الأوباش''، أصولهم عربية أفريقية مغاربية، ولدوا في ''سان دينيه'' أو غيرها من ضواحي باريس، تعيش فيها طبقة المهاجرين الفقيرة في حالة تكديس فوق بعضهم البعض، في مبان عالية بشعة، تعج بالمشاكل والعقد الاجتماعية والنفسية، والبطالة·
من باريس في القلب، إلى مارسيليا و''ديجون'' و''بوش دي رون'' في الجنوب، تكثر الضواحي التي تبذر العنف وتحصده، ويكبر زنار الفقر والحقد· و''سان دينيه'' القريبة من باريس واحدة من تلك البؤر·
ووزير الداخلية المحترم قال كلمة حق عندما اعترف بأن الانفجار الذي حصل في الأسبوع الماضي، جذوره ضاربة في تلك الأرض الخصبة للعنف منذ ثلاثين عاماً··· لكن السؤال: لماذا تركت الحكومة الفرنسية الأمور على حالها 30 عاماً؟ ولماذا يحصل ما حصل؟
القصة كلها تبدأ بحلم يراود صبي مغاربي، يدرس عن فرنسا ونورها والحرية ونعمة العيش فيها· هذا المغاربي، يقف عند المرفأ في الصيف ينتظر العبارات الآتية من مارسيليا، محملة بالمغتربين، أصحاب الجوازات الفرنسية والسيارات الجميلة وشقاء العمر، فيحلم بالتجربة، ويركب أي طريق توصله إلى مرفأ فرنسي· هناك تبدأ الصدمة الأولى، والكف الأول· فرنسا فيها ما يكفيها من الأفواه الجائعة واليد العاملة، والمغتربين من كل حدب وصوب·
يتحول الحلم إلى كابوس، ويضاف إلى الأفواه الجائعة والناقمة فوه· أين يذهب؟ بالتأكيد إلى حيث يتجمع أهل ديرته العاطلون عن العمل والفقراء··· إلى الضواحي التي تزنر المدن المشغولة بالسياحة والدبلوماسية وتكديس المال·
في تلك الضواحي من أتى قبلهم، من عشعش الحقد في داخله، من عمل سنوات وذاق طعم الفرنك والألف فرنك، ثم أحيل إلى غول البطالة· ومع الأسف عندما تتحطم الأحلام، ويجتمع حطامها، يدب فيها السوس وينخر، وتتحول الأحلام وحطامها إلى يباس، لا يحتاج إلا إلى شعلة، ليندلع أكبر حريق حول مدينة النور·
30 سنة والسوس ينخر· عشرات الإنذارات أعلنت أن الآتي مهول، ولم يتنبه إلى ذلك أحد· عشرات الأبنية احترقت بمن فيها، عشرات العمارات لم تكن تصلح لسكن الحيوان، عاش فيها ''الأفارقة''، كما يسمونهم، لأن خياراتهم كانت صفرا، وأحياناً تحت الصفر، فلا بلادهم الأصلية تسأل عن أحوالهم ولا بلاد أحلامهم تعترف بحقهم في تحقيق تلك الأحلام·
وفوق هذا وذاك، جاءت ''جريمة'' الإسلام، دينهم الذي يريدون التمسك فيه، في مجتمع يرفع شريعة المدنية، فتزداد العقد ويزداد الحطام يباساً، وينخر السوس بند التآخي والتواصل والرحمة، ولا يسود سوى الإحساس بالنقص، والرغبة بالانتقام والغل، الذي انفجر في ''سان دونيه'' وغيرها ناراً وانفجارات مخيفة·
أهذا دفاع عن أعمال الشغب؟ بالطبع لا· لنسمه توصيفاً لحالة بدأت بحلم قبل 30 عاماً أو 20 أو ،10 وأوصلها الإهمال إلى جحيم الغربة في ''سان دينيه''·