تبدو مقولة الغزو الفكري قابلة للنقض، وقد كنت على مدى سنوات مضت من الذين يفضلون تسميتها مثاقفة تنميها ثورة تقنيات الاتصال وانتشار فكر العولمة، وكنت من المتفائلين بانتشار المعلوماتية بوصفها تشكل انطلاقة رحبة لإنسانيين جدد، قادرين على التواصل الإنساني على رغم اختلاف قومياتهم وجنسياتهم وأديانهم، متحررين من سلطة التاريخ التي تورث الأجيال أحقاد آبائهم وأجدادهم،ومؤمنين بضرورة بناء المجتمع الإنساني بوصفه أسرة كبيرة يجتمع أفرادها على المحبة والتسامح ويحتكمون إلى العدالة والحق، ويتشاركون في تقدم العلم لصالح الإنسان وليس لإبداع وسائل أكثر تقنية لقتله· ولم يكن التفاؤل بعالم يسوده التفاهم والسلم مستحيلاً، ولا حلماً طوباوياً بعد أن ذاقت البشرية من ويلات الحروب ما هو جدير بأن يجعلها ترتدع عن احتلال أوطان الآخرين وعن التدخل الفظ في شؤونهم وعن السطو و القتل والتدمير والاحتكام إلى القوة العسكرية وحدها· وحين كان يقال إن العولمة ووسائل الاتصال الحديثة ستقضي على الخصوصيات الثقافية كنت أجد في هذا التخوف نوعاً من المبالغة، فالثقافات لا خصوصية مغلقة لها، وصفوتها عبر التاريخ كله، هي ما حمل المحلية إلى العالمية ونشرها في فضاء الإنسانية الأرحب،وهذا ما حققه شكسبير في أدب البريطانيين، وهوغو ولامارتين في أدب الفرنسيين وطاغور في أدب الهند،والخيام في أدب الفرس، والمتنبي وأبو العلاء في أدب العرب، وتولستوي وديستويفكي في أدب الروس والأمثلة لا تحصى من آداب وثقافات الأمم التي خرج مبدعوها الكبار إلى فسحة الإنسانية حاملين معهم خصوصية قومية منفتحة على الكون· فأما الفلسفات فهي تختص بغياب الخصوصية، لأن مقولات العقل الإنساني واحدة وكليات المنطق وبديهيات الفكر ومسلماته متطابقة في الجوهر وإن اختلفت في أشكال التعبير، وهذا ما جعل الأديان أممية لا قومية لها و لا عرق ·
و لا يقلل هذا الانفتاح المطلق من جمالية الخصوصيات في اللغة شعراً ونثراً ومسرحاً وفي الموسيقا والفنون التشكيلية، بل إنه يشكل في التنوع الشكلي ثراء هو في المحصلة لصالح البشر جميعاً وليس حكراً على قوم أو على أمة دون سواها ·
لقد قبلنا بالعولمة على هذه الأرضية الرحبة من الفهم، وكعادتنا في البحث عن جذور الأشياء لدينا، وجدنا أنفسنا أوائل الدعاة إلى العالمية· فقد جاء ديننا الإسلام عالمياً، ومضت حضارتنا الإسلامية في ذات اتجاهه الكوني، ولا أحد بوسعه أن ينكر علينا اتساع تجربتنا الفكرية إلى حد أنها أحيت فكر وثقافة اليونان والرومان، ونشرت كل ما لدى الهند من مقولة مقبولة أو مرذولة، وجعلت طلب العلم فريضة تطلب ولو في الصين، التي كانت الأبعد جغرافياً والمحصنة خلف سورها العظيم ·
ولا أنكر أنني كنت من المتفائلين كذلك بقيام منظمة التجارة العالمية، مع التحفظ المشروع الذي أبداه أمثالي من مواطني العالم الثالث الذين خافوا أن تقضي المنافسة على حضورهم وقدرتهم على الندية في عقد شراكة غير متكافئة مع المتقدمين· لكنني كنت أكتم رغبة في التحريض الذي تتيحه التجربة، لعله يثير طاقات كامنة، تخلصنا من الخضوع لروتين التخلف·
والمؤسف بعد كل هذا التفاؤل أن حساب السوق لم ينطبق على الصندوق، فقد جاءت العولمة بعكس كل التفاؤل الذي استقبلت به،فمنذ أن أعلن الرئيس بوش الأب ولادة ما سماه العالم الجديد، شهد العالم عودة مريعة إلى ما يشبه عصر الطوطمية والبدائية الأولى· فبدلاً من أن تنصهر الإنسانية في بوتقة كونية أو أن تتجه إلى إحلال السلام مع انتهاء العالم من الحروب ظهرت النعرات العرقية، والاختلافات الإثنية، واشتعلت عشرات الصراعات والحروب الإقليمية،وكان مثيراً أن تصل هذه الحروب المفتعلة إلى القارة الأوروبية نفسها في حرب البوسنة وما تلاها، وأن يصل البركان إلى الولايات المتحدة ذاتها في الحادي عشر من سبتمبر، لتنطلق جحافل الجيوش الأميركية فتغزو وتحتل وتهدد وتعلن أنها ستدخل حروباً قد تستمر أربعين عاماً ·
هكذا تبدد التفاؤل الذي لم يدم طويلاً بولادة عالم جديد ينزع إلى السلم، ويتفرغ فيه البشر لمواجهة القضايا الأخطر على الإنسانية مثل مشكلات الفقر والأمراض المستعصية، ومثل اتساع الهوة بين الشمال والجنوب وهي ذات الهوة بين الغنى والفقر·
أما الذين تشاءموا من العولمة منذ ظهور أفكارها، ولم يجدوا فيها جديداً عما كان في نظام دولي شهده العالم في القرن التاسع عشر وكان فاتحة حروب مدمرة، فقد وجدوا فيما حدث من صراعات مبرراً للتشاؤم الذي أبدوه،وقد أيدته المقدمات الفكرية المريبة التي رافقت ولادة النظام الجديد والتي كانت توحي بما يضمر منظروه، فقد كانت أفكار هنتينغتون وفوكوياما وأمثالهما توحي بما وراء الأكمة ·
لقد بدت تلك الأفكار عدوانية قاتمة، تبحث عن عدو جديد لأميركا، وعن مبررات تسلط وسطو على حقوق الضعفاء· وبدافع من التثقيف الجديد للقادة السياسيين تحول مشروع العولمة إلى مشروع مدمر لأحلام البشر في الأمن والسلام والاستقرار،وسرعان ما اكتشف المتفائلون أن كل ما قيل عن عالم جديد ي