شغلني بشدة ما كتبه الأستاذ فهمي هويدي المعروف بالكاتب الإسلامي المستنير ذات يوم، في ثنايا عرضه لقضية السيدة وفاء قسطنطين التي قيل إنها أسلمت ثم ثبت عكس ذلك. كان الجديد فيما كتب هويدي ما يثير الدهشة والانشغال، فقد أرجع سبب إسلام السيدة وفاء قسطنطين لقراءتها موضوعاً كتبه الشيخ الدكتور زغلول صاحب الفضيلة الجيولوجي رئيس هيئة الإعجاز العلمي في القرآن في صحيفة "الأهرام"، مما دفعها دفعاً إلى اعتناق الإسلام.
المدهش هنا أنه كلما كتب زغلول مقالاً كلما وضعت يدي على قلبي خوفاً على انسراب بعض المسلمين من إسلامهم، أما أن يحدث العكس فلا شك أنه الدهشة نفسها. ذكرني ذلك بأبنائي عندما كانوا أطفالاً يشاهدون برامج "ميكي ماوس"، وإصرارهم على جلوسي معهم وأحياناً كانوا يشرحون لي ما غمض عليّ فهمه، متصورين أن الجميع يشاركونهم المتعة نفسها وذاتها.
ربما كنت قاسياً بعض الشيء، لأنه لم يعد هناك وقت للمجاملات والنفاق وتزيين الكلام وتغليفه، هناك عالم انطلق الآن بتسارع هائل، إما أن نلحق بآخر قافلة فيه، أو نتعامل مع أنفسنا ومع العلم باعتبارنا درجة أدنى رتبة في التطور على سلم الرئيسيات وليس الإنسان، لأن الإنسان هو من يسكن الشمال الآن. ومثل الأستاذ هويدي ومثل الشيخ زغلول من يصر ليس فقط على بقائنا هنا على هذه الدرجة في سلم التطور، بل إعادتنا إلى القرن السابع الميلادي حيث كانت البركة بالمقدس هي الخطة الرئيسية وهي سيدة الموقف. في وقت نعلم جميعاً فيه أن هناك إصلاحاً مطلوباً في بلادنا، وأن هذا الإصلاح أصبح مفروضاً بقوة الخارج المتفوق حماية لنفسه من مناخنا السياسي والثقافي الذي تحول إلى مفرزة للإرهاب، ومفروضاً من الداخل بضغوط شعبية، وباعتراف كافة الفرقاء واتفاقهم على أن هنا شيئاً بحاجة للإصلاح. لكن مشكلتنا أننا نريد أن نصلح بنفس المنهج وبنفس الطريقة ونفس التفكير ونفس اللغة ونفس المنطق الذي أدى بنا إلى (الحاجة للإصلاح)، ذلك الشعار المهين لأمة تزعم أنها المحسودة لما بين يديها في العالمين... إن الإصلاح لا يتم بالأدوات القديمة ولا بنفس منهج التفكير القديم ولا بالحكم والمواعظ والشعارات القديمة، إنه بحاجة لأدوات مستحدثة، اكتشفها الإنسان وهدفها الإنسان. ثم إن العلم الإنساني شيء والدين شيء آخر. ومن ثم وجب على هذه الأمة أن تستحضر كل الشأن من بلاده في الشمال كما هو، دون قياسه على ذائقتنا الدينية، لأن من يعيشون هناك كفونا مؤنة البحث والتذوق.
هناك العلم هو سيد الموقف وليس البركة، هناك الخطأ والصواب، المفيد الصالح والضار الطالح، وليس الحلال والحرام الديني. في علومنا التي نفخر بإنجازها كعلوم الحديث مثلاً، ودرجات إسناده وكيف تمت ولماذا ومدى الجهد المبذول فيها، كلها كانت علوماً تليق بزمانها، لأن المعيار الذي نقيس به علمية الأمور قد اختلف وتبدل. قديماً سعى البخاري وأحمد والترمذي ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم بين البلاد جمعاً وترتيباً وتصنيفاً وجرحاً وتعديلاً وإسناداً، استناداً لمعيار واحد فقط, لمصداقية المادة المجموعة هو قدر تقوى الرواة وقدر إيمانهم وأخلاقهم ومكانهم من الدين ومدى استيعابهم لعلوم الشرع... إلخ. اليوم تبدل المعيار بالكلية، بحيث لم تعد توجد علاقة بين الورع والتقوى وأداء الطقوس، وبين صحة علم هذا الشخص الورع من كذبه، وذلك لأن العلوم الحديثة جاءت للبشرية على يد غير المسلمين من يهود ونصارى وبوذيين وكنفيشيوسيين وشنتويين وسيخيين. ومع ذلك فدليل صدقهم لا يحتاج نقاشاً. دليل صدقهم هذه الصحيفة التي تقرؤها الآن، والآلات التي تقف وراءها وصنعها لنا المتقدمون خصيصاً بحروفها العربية، والتلفاز الذي تقضي سهرتك أمامه، والكمبيوتر الذي تقضي عليه ساعة فتنجز ما كان بإمكان القرن السابع كله إنجازه في قرن. سيارتك وملبسك وعلاجك وطول عمرك وتحديك للمرض، كل هذه أدلة تشمها وتراها وتسمعها وتلبسها وتتذوقها دليلاً على صدق أصحابها، رغم أن أصحابها ليسوا بمسلمين وربما لا يعلمون شيئاً عن الإسلام. بل والداهية الأعمق هنا هي أنه من الصعب تصور مكتشف أو مخترع متمسكاً بالعقائد الدينية، لأنه لو كان جاليليو أو أي عالم جليل مثله مؤمناً نقياً لصدّق ما جاء به دينه ولم يحاول اكتشاف ما ينقصه. وأن العلم سواء جاء من مؤمن بأي دين أو ملحد هو لا دين له ولا جنسية لأن نفعه يعم على البشرية. بينما علماؤنا -عافاهم الله- لا زالوا هم رجال ديننا، والمعلوم أن واحداً منهم لم يسهم حتى الآن ولو بصفر فيما نعيش من حضارة زاهرة أتتنا واردة من أرض "الطاغوت".