على هامش معارض فرص العمل التي تعقد في الدولة في أماكن متعددة وأزمنة متعددة ظهرت عدة تصريحات لكبار المسؤولين في مجال توظيف القوة العاملة الوطنية والاهتمام بتنمية الموارد البشرية. وكان من أغرب تلك التصريحات وأكثرها إثارةً للدهشة والحيرة الفعلية والجدل هو ما أكده بعض الإخوة المسؤولين قبل أيام قليلة بقولهم إنه لا توجد بطالة بين الموطنين في الإمارات على الإطلاق (أي أن معدل البطالة قد أصبح صفراً وأن مستوى التوظيف قد أصبح كاملاً 100%)، وهو مستوىً لم تبلغه أية دولة من دول العالم على الإطلاق لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل. وبدأت الناس تتساءل عن سر وجود الشباب والشابات القابعين في بيوتهم دون عمل، المعتمدين على دخل والديهم، طالما أن مشكلة البطالة قد تم علاجها علاجاً جذرياً إلى غير رجعة؟ فهل يصدقون السياسيين، أم يصدقون ناظريهم؟ لعل الإخوة المسؤولين عن تلك التصريحات قد فسروا ذلك بمنطق مختلف لمفهوم البطالة في الأدبيات والمفاهيم الاقتصادية، حين أشاروا إلى أن الوظائف الشاغرة في كل من قطاع الدفاع بتخصصاته المختلفة وقطاع الشرطة والأمن العام بتخصصاته المختلفة كفيلة باستيعاب كافة القوة البشرية الوطنية العاطلة عن العمل. وقد أكدوا على أن المواطنين الكسالى فقط هم الذين يؤمنون بوجود البطالة. والحقيقة أن هذا المنطق قد يكون مقبولاً من الناحية النظرية، إلا أنه لا يمكن تطبيقه بحذافيره من الناحية العملية، وذلك لعدة أسباب أهمها الآتي:
(1) ليس كل الناس لديهم الاستعداد البدني والذهني والنفسي والمعنوي والاجتماعي للعمل في قطاعي الدفاع أو الشرطة، حيث إن ظروف البشر وطاقاتهم وقدراتهم واستعداداتهم وميولهم تختلف وتتفاوت. فكل إنسان له نظرته وحساباته الخاصة وفلسفته في الحياة.
(2) إن قطاعي الدفاع والشرطة قد يستوعبان أعداداً تفوق شعب الإمارات بأكمله وبكافة فئاته العمرية كمجندين، وفقاً للمنطق الكمي الإحصائي المحض. بيد أن النخبة المنتقاة لهذين القطاعين، والتي قد تحظى بالتدريب والتأهيل والمستقبل الواعد، قد لا تنطبق معاييرها المنطقية والطرق المتبعة التي يبنى عليها الانتقاء على الجميع. فأحياناً نرى أن معيار النسبة المئوية في نتائج الثانوية العامة هو المعيار الأساسي، بيد أنه قد يتم تجاوز ذلك المعيار في حالات كثيرة. فأحياناً تجد أصحاب النسب المنخفضة يحالفهم الحظ وأصحاب النسب العالية يتوهون في أرض الله الواسعة لعل الله يفتح لهم أبواب رزق بديلة، من حيث لا يحتسبون، وأحياناً يتم عدم قبول شباب في قطاعي الدفاع والشرطة بحجة أن قامتهم قصيرة. وأحياناً يتم عدم قبولهم بحجة أن وزنهم زائد، وأحياناً يتم عدم قبولهم بسبب ضعف نظرهم، وأحياناً بسبب نقص وزنهم، وأحياناً بسبب إصابتهم بمرض أبو صفار، وما إلى ذلك من الحجج والأعذار. والسؤال الذي يطرح ذاته؟ لماذا لا يتم تأهيل هؤلاء في تخصصات معينة والاستفادة منهم؟ فإذا كان العالم اليوم يهتم بتأهيل المعاقين للعمل، فلماذا لا نهتم نحن بهذه الطاقات البشرية؟ فالبدانة وقصر القامة وضعف البصر وغيرها من الأمور التي ذكرناها ليست إعاقة. ولماذا ندعي أن قطاعي الدفاع والشرطة قادران على استيعاب كافة الموارد البشرية الوطنية في الوقت الذي نجد فيه أن هذين القطاعين يتخليان عن طاقات بشريةٍ تأتي إليهما بمحض إرادتها وهي قادرة على العطاء وراغبة في العمل.
(3) وأحياناً يتم استبعاد الشباب من القبول في الفرص المتقدمين إليها (في المجالين العسكري والمدني) بعد المقابلات الشخصية. وما أدراك ما المقابلات الشخصية والتي قد تطرح فيها أسئلة تعجيزية ليس لها علاقة بفرصة العمل من قريب ولا من بعيد. ولا يعرف كنه أسرارها التي ترتبط بتقويم المتقدم لفرصة العمل إلا من وضعها فمثلاً قد يُسأل مدرس رياضيات متى ولد قانصوه الغوري ومتى توفي؟ وقد يُسأل مهندس كمبيوتر كم بلغ الناتج المحلي للدانمارك في عام 2003؟ وإذا لم يجب هؤلاء على تلك الأسئلة فهم بالطبع راسبون في تلك المقابلات. فهم بلا شك قد يحتاجون إلى عفريت من الجن كذلك الذي كان عند سيدنا سليمان بن داوود عليهما السلام، كي يتمكنوا من الإجابة على أي سؤال. فما هو المنطق العلمي والعملي من وضع تلك المعايير والأسئلة التي تعرقل الموارد البشرية، وتبعدها عن رغبتها العارمة في المشاركة الفاعلة في خدمة الوطن.
(4) رغم أهمية قطاعي الدفاع والشرطة إلا أن الدولة بحاجة إلى تواجد المواطنين في كافة القطاعات الاقتصادية الأخرى. حيث إن الدولة حريصة على تطبيق مبدأ شمولية التوطين لكافة القطاعات الاقتصادية وعموميته لكافة أنحاء الدولة وبشكل متوازن يأخذ في الاعتبار الأهمية الاستراتيجية والاجتماعية والاقتصادية للقطاعات الاقتصادية. فلماذا تفضل بعض الدوائر الحكومية المحلية الوافدين على المواطنين الذين ينتمون إلى إمارات أخرى، رغم أهلية المواطنين لمواصفات ومعايير الوظائف المعنية وقدرتهم على المنافسة؟ ولدي أدلةٌ دامغةٌ على هذه الظاهرة السلبية المؤسفة.