يجدر التذكير بأن الربا من السبع الموبقات، وهو الكبيرة الوحيدة من كبائر الذنوب التي توعَّد الله المتعاملين بها بحرب من الله ورسوله ووصفهم بأنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي به مس من الشيطان. ويجدر التذكير أيضاً بأن الربا ليس صنفاً واحداً وإنما هو يأخذ عدة صور وأشكال من المعاملات، وذلك وفقاً للأحاديث النبوية الصحيحة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الربا سبعون جزءاً، أيسرها أن ينكح الرجل أمه"، رواه ابن ماجة في (سنن ابن ماجة) والبيهقي في (شعب الإيمان). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من بخاره"، رواه أحمد وأبو داوود والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي. في الحقيقة أنه يجب على كل مسلم مؤمن تقيّ أن يؤمن ويدرك بأن الله سبحانه وتعالى هو العقل المطلق الوحيد الأزلي الأبدي المحيط والمدرك لأسرار الكون والوجود وأسرار التشريع وحِكمه ومقاصده وروحه وأسبابه وعلله لأنه هو المشرع سبحانه. أما المخلوقات فعقولها مخلوقة نسبية قاصرة قد تدرك بعض المقاصد والحِكم والأسباب والعلل من التشريع السماوي ولكن يستحيل عليها إدراك الكل ومعرفة روح التشريع الرباني وكنهه وأسراره. فالله سبحانه له في الحِل والحرمة حِكم لا يحيط بها علماً إلا هو، وعلينا نحن التسليم بذلك، فلا نجادل فيما لا تدركه عقولنا. يقول الحق سبحانه وتعالى "ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا. وأحلَّ الله البيع وحرَّم الربا" (البقرة 275). فالله سبحانه يقول لنا إن بعض المرابين لم يتمكنوا من التمييز بين البيع الحلال والربا الحرام عندما نزل تحريم الربا، وأخذوا يجادلون كثيراً في ذلك. ويقول سبحانه "ومن الناس من يُجادلُ في الله بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منيرٍ" (الحج 8 ولقمان 20). ويقول سبحانه "ولقد صَرَّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل. وكان الإنسانُ أكثر شيءٍ جدلاً" (الكهف 54).
في مرحلة من مراحل الاكتتاب في أسهم إحدى الشركات المساهمة العامة الجديدة (أي سنة 2005) ذهبت إلى أحد البنوك الإسلامية لاستصدار شيك مدير (أي معتمد) من أجل الاكتتاب، وفي نفس الوقت سألت البنك ذاته إذا كان بالإمكان منحي تسهيلات مصرفية وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية لزيادة حصتي في الاكتتاب الجديد في هذه الشركة. فأجابني البنك بأنهم لا يتعاملون في مثل تلك المعاملات، حيث إن عليها تحفظاً من الناحية الشرعية. ثم قمت بزيارة إلى مصرف إسلامي آخر وبمجرد علمه برغبتي بالحصول على التسهيلات المصرفية لأجل الغرض ذاته عرض عليَّ تسهيلات مصرفية تعادل عشرة أضعاف المبلغ الذي في حوزتي وأرغب في الاكتتاب به. والأغرب من ذلك أن بعض أعضاء هيئة الفتوى والرقابة الشرعية في البنك الأول هم أنفسهم أعضاء في نفس الهيئة في المصرف الثاني. والحقيقة أنني كنت أجري اختباراً للمصارف الإسلامية فقط، ولم تكن لدي الرغبة للاقتراض بالربا. فأنا مقتنع تماماً بأن الفوائد المصرفية أخذاً وعطاءً (أي الفوائد الدائنة والفوائد المدينة معاً) هي ذاتها عين الربا، حيث إنني أُدَرِّس الاقتصاد الإسلامي في الجامعة منذ 16 عاماً. فلماذا تتحفظ البنوك الإسلامية على منح التسهيلات المصرفية (أي الائتمان المصرفي) على الاكتتابات الجديدة؟ وأين يختفي التعامل بالربا في مثل تلك المعاملات الاقتصادية؟
في الحقيقة لو أتينا لتوضيح ما يجري في الاكتتابات الجديدة فإننا سندرك أين يختبئ الربا في تلك المعاملات. فالشركات المساهمة العامة الجديدة عندما تطرح الأسهم للاكتتاب العام تتنافس فيما بينها لجمع أكبر قدر من النقود من الاكتتاب بحجة أن السوق فيه فائض سيولة ويجب أن نجد لها قنوات استثمارية. فأصبحت الشركات تجمع عشرات، بل أحياناً مئات المليارات من الدراهم من السوق، في الوقت الذي تصل حاجتها من الاكتتاب إلى مليار واحد فقط أو أقل. وتقوم بتوظيف تلك الأموال الفائضة عن حاجتها في ودائع مصرفية مقابل فوائد بنكية (أي ربا)، حيث يكون المكتتبون قد أعانوا تلك الشركات على أكل الربا فهم شركاء في الإثم بدليل الأحاديث النبوية الشريفة مثل قوله عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه، وقال: ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل" (مسند الإمام أحمد، وفتح الباري)، وغيره الكثير من الأحاديث في هذا الموضوع. والحقيقة أن هؤلاء المكتتبين في الشركات قد تم التغرير بهم فهم ليسوا على يقين بما يحدث في أموالهم الزائدة عن الاكتتاب بعد أن يكتتبوا بها. فلماذا لا يكون للجهات الحكومية المسؤولة عن عمليات الاكتتاب موقف حازم من تلك الشركات التي تغرر بالمكتتبين وتجبرهم على التعامل بالربا، حيث تستغل أموالهم في معاملات ربوية حتى ولو لم يحصل المكتتبون على تلك الفوائد المصرفية. حتى وإن استثنينا الجانب الشرعي في الموضوع يبقى الاستغلال والتغرير قائم