في مقالي الأسبوع الماضي كتبت سرداً مبسطاً عن قيمة التعايش عند شعوب الخليج، وعرّجت على مبدأ التسامح بين المذاهب والأديان في منطقة الخليج، والذي كان سائداً حتى عام 1979 أي ما قبل الثورة الإسلامية في إيران، والتي تلاها تسيد الراديكالية الإسلامية التي أفرزت بدورها فكراً مضاداً على الجانب الآخر، تبلور على شكل «الصحوة الإسلامية» كما تبنتها جماعات أصولية إخوانية، وانطلقت فكرياً من أقطار عربية، واستقرت غالباً في المملكة العربية السعودية والكويت وقطر، ثم انتشرت تدريجياً لتشمل كامل دول الخليج العربي.
حتى منتصف القرن العشرين، كانت الأسر اليهودية تتعايش في منطقة شبه الجزيرة العربية، وتحديداً في جنوبها بنجران وشمال شرقها في الكويت، وقد امتزجت عوائل هذه الطائفة مع سكان تلك المناطق دون تمييز أو نعرات طائفية. وكذلك الحال بالنسبة لتمازج المذهبين السني والشيعي وبعض الفرق والطوائف، كالصوفية والأباضية والإسماعلية والمذاهب الصغيرة المتفرعة من المذهبين السني والشيعي في الخليج قاطبة. ولم تكن المذهبية الدينية والعقدية تشكل عائقاً اجتماعياً بقدر ما تشكله القبلية والإثنية العرقية آنذاك، حتى جاءت الصحوة تزامناً مع الثورة الخمينية وحلت معها الصدامات الفكرية التي أججت الطائفية في بعض مناطق الخليج، فبلغت حداً مقلقاً اقتضى سن بعض القوانين المجرِّمة للطائفية والعنصرية والكراهية في بعض دول الخليج في وقتنا الحالي.
الأصل في مجتمعات وشعوب الخليج هو التعايش كفطرة بشرية فطر الله عليها تلك الشعوب، بدليل أن الصراعات الطائفية التي خلقتها الصحوة وفكرُها المتشدد وتأثرت بها فئة الشباب، لم تكن ذات قوة راسخة يستعصي اجتثاثها، بل بقدر ما تعملقت الصحوة وتطرفت أفكارُها، بقدر ما كان من السهل جداً أن يتراجع فكرها في عقول الشباب ليعودوا إلى جذورهم العميقة في التسامح والتمازج مع الآخرين، سواء كانوا مختلفين في الطائفة أو العرق أو الديانة.. لتظل القيم المطبوعة بالمحبة والتآلف هي الفيصل في سجايا الإنسان الخليجي، في صحرائه وعلى شواطئه وفوق جباله.
حين تنبّهت شعوب الخليج وقياداتها إلى اختراق صفاء عقائدهم ونقاء سجاياهم بوساطة جماعة «الإخوان»، لم يكن القبول ذاته لسائر المختلفين عرقياً أو عقدياً، ولم يجد الفكر الإخواني بعد عقود من إحسان الظن وكرم النفوس والأيادي، لم يجد القبول ذاته حين حل أعضاؤه كضيوف معززين عندما جاؤوا مستجيرين فارين، لكن ليس بعد أن كُشف أمرهم الرامي لإقامة دولة على أنقاض حكومات ودول الخليج المستقرة ولزعزعة أمن المنطقة بوساطة خلاياهم ومناشطهم السرية والتي نشطت في التعليم خاصة، وباقي قطاعات دول الخليج عامة، فحُق اجتثاث هذه النبتة التي لطالما زرعت الفتن والشكوك والتحريض والطائفية، وسعت لمسخ وتشويه فطرتنا النقية.
حين تكون الشعوب قد جُبلت على التسامح والنقاء والمحبة، فإنها بلا شك شعوب خُلقت لتبني حضارات إنسانية ودولاً تنهض بسواعد هذا الإنسان الذي ولد وعاش في هذه الأرضيات المتسامحة والبنّاءة، الإنسان الذي يتطلع للحياة والمستقبل بمخالطة الآخر وتقبّله بعقائده وعرقه ولونه وطباعه، وهذا هو الإنسان الخليجي في حقيقته، مجرداً من كل الأيديولوجيات التي حاولت تشويه فطرته، لكنه انسلخ منها ليعود لأصله النقي.

*كاتبة سعودية