أفتح الباب وأنزل إلى الشارع المقفر، الصامت الصبور الأصم المفتوح على خلائه اللانهائي، انخفض التلوث نحو ستين بالمئة (على ذمة أهل البيئة) في بيروت وسائر المدن المكتظة بالأنفاس، ومخلفات دخان البنزين والمازوت والغازات، إذن، بهذه اللحظات المعدودة افتح رئتيك لهواءٍ لم تتنفسهُ، منذ تلك الطفولات المبتاعدة، تنفسه الآن على جرعاتٍ أو على صباباتٍ حتى بعينيك، فالهواء من شدة صفائه تراه أحياناً على وجهك، على ملامسك، على كفيك.
لكن ها هي المفارقة: أنتَ تنزع الكمامة لتتنشق هذه النعمة المفقودة، وعليك وفي هذه اللحظات الاستثنائية أن تعيدها بكل حذر وتؤدة، فهذا الجو النقي بسمائه الربيعية، منذورٌ الآن لِرذاذ الكورونا وللوباء والغبار، مجهول الإقامة والهوية، فلا يسعُك إلا أن تكتفي بصمتِ الشارع، بهذا القدر من فراغٍ انمسحَ أيضاً على أزقة مغلقة بواجهاتٍ مظلمة، وبوابات حديدٍ... وكأنك تقول: قلما تكتمل المتعة النادرة، وعندما تفتح باب شقتك الصغيرة (الروف)، والمطلة على البحر والمنبسطة فوقها السماء، آه !. السماء وللمرة الأولى في حياتك، بلا طائرات ولا هيلوكوبتر، ولا ارتجاجات عبورٍ فوق شقتك، لم يعد كل هذا الفضاء اللانهائي يتسع لطائرة واحدة، لكن هناك من يحتل هذه الأمكنة «الشاغرة»، رفرف اليمام الذي ألفتهُ منذ عشرات السنوات على سطوحي وفي حديقتي وأسلاك الكهرباء وحِفاف الجدران، سلطانة الطرب، سلطانة الحضور، وحدها تزقزق وحدها ترفرف، لا ينافسها سوى جماعة من عصافير الدوري، بطيرانها، وفوضى حركاتها، وبلهوانيتها، فأيُّ عروضٍ بلا جمهور ولا تصفيق!
مفارقة أخرى، أنك وحدك في شقتك، لا عائلة لك، لا أولاد، لا أقارب، فأنت تعيش نعمة «العازب الأبدي»، فصيامك عن استقبال ضيوفٍ هو قديم وراسخ، إنه التباعد الاجتماعي أصلاً، لكن هناك في المقابل، عند السواد الأعظم، لقاءٌ عائليٌ، عودة خلايا العائلة، والنسب: تناقضان، تباعد عمومي وتقارب خصوصي، وهذه القاعدة تجدها بين الدول: ظهور تضامن كبير بينها لمواجهة كورونا، ولكن في الوقت ذاته، يغلق الجميع الحدود على الجميع، إنه الحظر الملياري والانعزال غير المسبوق، روسيا ترسل معدات وكمامات إلى فرنسا، الصين تساعد بعض دول أوروبا وأميركا...
إنها المرة الأولى في التاريخ التي يعيش العالم فيها عزلاً كاملاً: كتل مليارية من البشر في مصحات أو منازل منقطعة عن بعضها، وفي مثل هذه الأحوال غير المسبوقة، تظهر مفارقات تفصيلية سوريالية، كأن تتحول سيارات نقل الموتى المبردة لنقل الحبوب والفاكهة واللحوم في الولايات المتحدة، وأن يبحث العراقيون عن مشاعات نائية لدفن ضحايا الكورونا، بعيدة عن المدن والبيوت.
للمرة الأولى تغلق أبواب المزارات الدينية والكنائس والجوامع دون المؤمنين، ومن دون اعتراض منهم، ظاهرتان متقاربتان: أن يتمرد بعض المتدينين في كربلاء على قرار إغلاق المزارات بمظاهرات عبثية، وكذلك يتمرد المتدينون اليهود في إسرائيل ضد قرارات الحكومة التي لا يعترفون بها.
ومفارقة المفارقات: أن هذا الفيروس لم يوفر لا الأطباء ولا الزعامات ولا الوزراء من لعنته، فكأنها المرة الأولى أيضاً، التي يسقط فيها جنرالات الحروب قبل الجنود أو بعدهم! إنها المساواة التراجيدية بقسماتٍ عبثية خارقة!
*كاتب لبناني