قبل زمن ليس ببعيد، كان المتحمسون للتكنولوجيا يقولون لنا: إنه بحلول 2020 سنرى سيارات ذاتية القيادة تسير على الطرقات، بأعداد ستناهز العشرة ملايين، ولكن الآن، تبين أن هذا العدد مبالغ فيه، فالعدد الحقيقي للمركبات قيد التجربة هو أصغر من ذلك بآلاف المرات، كما أن هذه المركبات ما زالت تُقاد في الغالب في ظروف متحكم فيها، ثم إن الشركات قامت أيضاً بتقليص طموحاتها، حيث باتت تهدف إلى دعم السائق أكثر منه إلى صنع مركبة ذات استقلالية كاملة، تماماً مثلما طلب منا خبراء النقل الجادون والواقعيون أن نتوقع.
بيد أن تطوراً بطيئاً ربما يكون شيئاً جيداً، لأنه يفترض أن يساعد على تحسين سلامة المركبات، ومنح المهندسين وقتاً للإعداد لتهديدات أخرى، من قبيل تحويل القراصنة الإلكترونيين للسيارات إلى أسلحة مدمرة، وفضلاً عن ذلك، فإن بطء طرح هذا النوع من السيارات في الأسواق، يتيح أيضاً فرصة لتشكيل نوع من الإجماع الاجتماعي، حول الأسس الأخلاقية الأساسية للمركبات ذاتية القيادة، التي ستواجه على نحو لا مفر منه قرارات ذات تداعيات أخلاقية – قبل أن تضطر للاختيار، مثلاً، بين قتل ركاب السيارة عن طريق الاصطدام بشجرة أو الانحراف وتوجيه السيارة نحو مجموعة قريبة من الراجلين.
وفي هذا الصدد، سيتعين على المبرمِجين إعداد السيارات لاتخاذ مثل هذه القرارات، عندما تتوافر بعض الظروف، وسيحتاجون إلى بعض الأسس المبررة لفعل ذلك، هذه الحاجة تخلق تحالفاً بحثياً غريباً نوعاً ما، يعمل فيه علماء الأخلاق المهنيون إلى جانب خبراء الذكاء الاصطناعي، ويمكن القول إن لدينا الكثير لنتعلمه – والكثير من الأخطاء لنرتكبها – قبل أن نجد حلولاً مقبولة.
حتى الآن، حكومة وطنية واحدة فقط وضعت قواعد بخصوص كيف ينبغي للسيارات ذاتية القيادة اتخاذ القرارات، هذه الدولة هي ألمانيا، حيث تتبنى القواعد الرسمية موقفاً يقوم على المساواة: «في الأوضاع التي تكون فيها الحوادث المرورية حتمية، يمنع منعاً باتاً أي تمييز على أساس الخصائص الشخصية (السن، النوع، التكوين الجسمي أو العقلي)، والبرمجة العامة لتقليص عدد الإصابات الشخصية قد تكون مبررة».
هذا الموقف يحاول تجنب تفضيل شخص على شخص آخر – ذكر مقابل أنثى، مسن مقابل شاب، جراح ماهر مقابل تاجر مخدرات محلي مشهور، ووفق هذا الموقف، فإن كل الناس متساوون، وهذا يبدو طبيعياً بما يكفي، وإن كانت مثل هذه المفاهيم المتعلقة بالمساواة قد تصطدم باختلافات ثقافية محلية في المواقف الأخلاقية، مثلما يتضح من مسح واسع للحدس الأخلاقي للناس.
فقبل بضعة أعوام، استخدم باحثون موقعاً على الإنترنت، من أجل جمع نحو 40 مليون اختيار يتعلق باختيارات نظرية صعبة في القيادة الذاتية، من أشخاص في 233 منطقة حول العالم، غطت عدة ثقافات، فوجدوا أنه لئن كان الناس عموماً يمنحون الأولوية بالفعل للأرواح البشرية على أرواح الحيوانات، وأنهم يرغبون في إنقاذ عدد أكبر من الأرواح وليس أقل، فإنهم يميلون أيضاً إلى تفضيل إنقاذ الشباب على المسنين، هذا في حين يميل الناس من أميركا الوسطى والجنوبية إلى منح الأولوية لأرواح الإناث واللائقين صحياً، وفي عدة مناطق، عبّر الناس أيضاً عن تفضيل للأفراد الذين لديهم وضع اجتماعي عالٍ – إذ يعطون قيمة أكبر لمدير على شخص متشرد.
الدراسات من هذا النوع تقدّم دليلاً تقريبياً يشير إلى التفضيلات الأخلاقية الحقيقة للناس، وكيف تختلف من مكان إلى مكان، وقد تكون محاولةُ الانسجام والتوافق معها نقطةَ بداية جيدة بالنسبة للمهندسين، غير أن المسموح لا يمكن أن تكون المرشد الوحيد أيضاً، وذلك على اعتبار أن المواقف الأخلاقية السائدة تتغير مع الوقت، فتاريخياً، تسود في بعض المناطق قيمٌ تمييزية بشكل صريح على أساس العرق أو النوع، وإنْ كان يُنظر إليها على نطاق واسع من قبل معظم الناس على أنها غير أخلاقية.
بعض الخبراء يرون أن طريقة أفضل لتحديد قواعد موثوقة، تكمن في الجمع بين المقاربة القائمة على المسح والتحليل القائم على النظريات الأخلاقية السائدة التي طوّرها فلاسفة الأخلاق، إذ يستطيع المرء البدء بآراء الجمهور، وبعد ذلك تمرير تلك الآراء عبر «فلتر» النظرية الأخلاقية، من أجل رؤية ما إن كانت قاعدة من القواعد، عند تدقيقها وإمعان النظر إليها، يمكن الدفاع عنها أخلاقياً، علماء الأخلاق يشيرون إلى الآراء التي تنجح في هذا الاختبار باسم «التفضيلات المغسولة»، وعلى سبيل المثال، فإن كل النظريات الأخلاقية سترفض تفضيل جنس/نوع على آخر، رغم أن المسح وجد مثل هذه التفضيلات في بعض المناطق. وبالمقابل، فإن تفضيل إنقاذ أكبر عدد من الناس سينجح في الاختبار، شأنه في ذلك شأن تفضيل الشباب على المسنين.
في هذا المجال الذي لم ينظم بعد، ينبغي أن تكون السياسات موجَّهة بخليط من التجريبي والنظري، فعندما تقوم سيارة ذاتية القيادة بالاختيار وتقتل بعض الأطفال، فإنه لن يكون واضحاً كيف تم اتخاذ ذاك القرار، ولكن الناس سيرغبون في معرفة ذلك، ولهذا، يجدر بالقواعد أن تنجح في اختبار التدقيق الأخلاقي.
*كاتب وفيزيائي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس».