لم يكن من الممكن أن يطل علينا الفيلم الوثائقي «الكهف» في وقت أكثر ملاءمة من الآن. فهو من إخراج «فارس فياض»، الذي أخرج الفيلم الوثائقي «آخر الرجال في حلب» عام 2017. وهو يدور حول مستشفى تحت الأرض في مدينة الغوطة المحاصرة في سوريا التي مزقتها الحرب الأهلية، حيث كانت الأسواق والمدارس والمنازل والمستشفيات مستهدفة بالقصف الجوي، لحمل السكان على الفرار. ويركز الفيلم، المستخلص من مئات الساعات التي تم تصويرها بين عامي 2016 و2018، على الطبيبة «أماني بلور»، والتي تبدو شخصية ملهمة إلى حد كبير.
في ثقافة تكون المرأة فيها مقهورة بشكل روتيني، تكمن المفارقة في أن «بلور»، جنباً إلى جنب مع العديد من الطبيبات والممرضات، كانت تعمل تحت الأرض على قدم المساواة مع نظرائها من الرجال بطريقة لم يكن ليُسمح بها فوق الأرض. فقد جعل اليأس والنفعية الرجال والنساء على قدم المساواة على هذه الساحة.
كانت «بلور» مديرة المستشفى، مما أثار مقاومة لدى أولئك الذين لم يستوعبوا أن تتولى امرأة سلطة مثل هذه. وفي إحدى المواجهات، يخبر زوج سيدة مصابة «بلور» بأن النساء يجب أن يكنّ فقط زوجات وأمهات، فترد الطبيبة: «لا أحد يخبرني بما يجب علي فعله». وهي تدين الرجال الذين يستغلون الدين «كأداة» لقمع النساء. وبالنسبة لأولئك النساء النادرات اللاتي كان أزواجهن وآباؤهن يسمحون لهن بذلك، فإنها كانت توفر لهن وظائف في المستشفى.
وتتحدث الطبيبة إلى والديها بشكل دوري على هاتفها المحمول، ونسمع بعض هذه المحادثات في الفيلم. فوالدها يشعر بقلق بالغ عليها. وهي تواسيه بشرح صوابية ما تقوم به، وتتحدث خصوصاً عن الجرحى وتتساءل: «إلى أي درجة يمكنني مساعدتهم؟»، وعن السبب الذي يجعل الناس في سوريا مستمرين في الإنجاب. أما أقوى الصور في الفيلم فهي للأطفال الجرحى والمذهولين.
كانت الدكتورة «بلور» تحظى بدعم قوي من سليم نامور، كبير الجراحين في المستشفى، الذي قام بترقيتها لمنصب المدير، وكان معجباً بها. إنه بطل آخر من أبطال الفيلم الاستثنائيين: وفي غرفة العمليات المؤقتة، التي غالباً ما كانت تفتقر للتخدير والإمدادات الكافية، يقوم نامور بتهدئة المرضى بالموسيقى الكلاسيكية، مثل مقطوعات «موتسارت» المنسابة من هاتفه الذكي.
ونظراً لأنه أخرج فيلماً وثائقياً يدور حول نضال الشاعر السوري المنفي، تم سجن فياض عام 2011 وتعرض للتعذيب طوال 15 شهراً. ولأنه لم يكن قادراً على المشاركة مباشرة في تصوير «الكهف» بسبب الحصار، فقد قام بتجنيد ثلاثة من المصورين السينمائيين الجسورين، هم محمد خير الشامي وعمار سليمان ومحمد فياض، وعمل معهم عن بعد لتشكيل وتعديل اللقطات التي تستغل السرد الصوتي والمقابلات المباشرة أمام الكاميرا. ومن الواضح أن مخاطر إنتاج هذا الفيلم كانت كبيرة جداً. فقد أدت الهجمات الجوية إلى تقليص مساحة الأرض المتاحة، وتم تهديد المستشفى الكائن تحت الأرض بصورة مستمرة. وينتهي الفيلم بإغلاق المستشفى بعد استعادة القوات الحكومية وحلفائها السيطرة على المنطقة.
لكن الشيء الذي استخلصته من «الكهف» كان مقاومة العاملين بالمستشفى، خاصة الدكتورة بلور التي تعهدت بالعودة إلى سوريا عندما تسمح الظروف السياسية، مضيفةً أنها قبلت المشاركة في الفيلم لرغبتها في الوقوف على حقيقة ما يحدث. وهي تدعم بشكل خاص الفتيات الصغيرات اللاتي تعالجهن في المستشفى. ويُترك لوالد الطبيبة تقديم المواساة الأكثر مغزى، حين يقول لها: «سينسى الناس الحرب في مرحلة ما، لكنهم لن ينسوكِ. إنني فخور بك».

*ناقد سينمائي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»