في عملية جراحية هي الأولى من نوعها في الولايات المتحدة، قام فريق من الأطباء بمستشفى جامعة غرب فيرجينيا بداية الشهر الجاري، بزراعة أقطاب كهربائية داخل مخ مريض يبلغ من العمر 33 عاما، لمساعدته على التخلص من إدمان لمشتقات الأفيون، مستمر لديه لأكثر من عشر سنوات، تعرض خلالها لنوبات من فرط أو زيادة الجرعة مما هدد حياته عدة مرات. ولم تفلح معه وسائل علاج الإدمان، حيث ظل ينتكس ويرتد لإدمانه بعد إنهائه لفترة العلاج. وتعمل هذه الأقطاب بعد وصلها ببطاريات خارجية تزرع تحت عظمة الترقوة، لمساعدة المريض على التخلص من رغبته الجامحة في العودة لتعاطي المخدرات. ويصف الأطباء هذه العملية بأنها شبيهة بفكرة منظم ضربات القلب (Cardiac Pacemaker)، وهو جهاز صغير يزرع داخل قلب المريض في حالات معينة، ويتصل ببطاريات، ويعمل على تنظيم انقباض وانبساط عضلة القلب بشكل إلكتروني.
وتأتي هذه العلمية الجراحية التجريبية والتاريخية في وقت ترزح فيه ولاية غرب فيرجينا تحت نير الوفيات الناتجة عن تعاطي المخدرات، حيث تحتل هذه الولاية المرتبة الأولى حالياً بين الولايات الأميركية في نسبة الوفيات بسبب الجرعات الزائدة من المخدرات، وذلك في بلد، تحتل فيه أصلاًَ الوفيات بسبب الجرعات الزائدة من المخدرات، رأس قائمة أسباب الوفيات جميعها لمن هم دون سن الخمسين. وهو ما حدى بالرئيس الأميركي الحالي في شهر أغسطس الماضي، للإعلان من خلال مؤتمر صحفي: أن إدمان مسكنات الآلام ومشتقات أو شبيهات الأفيون قد أصبح طارئاً صحياً وطنياً، ولدرجة أن هذه المشكلة الصحية الاجتماعية أصبحت تُصنف على أنها خطر على الأمن القومي الأميركي. ويكفي لإدراك حجم هذه المشكلة حاليا، معرفة أن 90 أميركياً يلقون حتفهم يومياً نتيجة تناول جرعة زائدة من مشتقات الأفيون، ضمن 142 أميركيا يلقون حتفهم يومياً بسبب المخدرات بمختلف أنواعها. وبناء على هذه الوفيات اليومية، تظهر البيانات والإحصائيات أن أكثر من 42 ألف أميركي يلقون حتفهم بسبب الجرعة الزائدة من مسكنات الآلام ومن مشتقات الأفيون، سنويا.
ورغم أن العملية التي أجريت في غرب فيرجينا بداية الشهر هي الأولى من نوعها، على صعيد الغرض منها، أي علاج الإدمان، إلا أن زراعة جهاز إلكتروني داخل الجمجمة وبين خلايا المخ يعود لعام 1997، حينما استخدمت لعلاج مرضى الشلل الرعاش. وحاليا يُقدر أن 180 ألف مريض حول العالم خضعوا لعمليات مماثلة، لعلاج الشلل الرعاش، والصرع، والوسواس القهري، واضطراب العضلات الانقباضي، كما تُجرى دراسات وأبحاث حالياً حول إمكانية استخدام هذا الأسلوب الجديد نسبيا لعلاج مرضى الاكتئاب الشديد، وعلاج من يعانون من آلام مزمنة لفترة طويلة، دون أن يكون هناك سبب واضح لآلامهم.
ويطلق على هذا الأسلوب اسم «التحفيز العميق للمخ» (Deep Brain Stimulation)، ويتلخص في تدخل جراحي يتم من خلاله زراعة أقطاب جهاز إلكتروني يطلق عليه «المحفز العصبي» في مناطق عميقة من المخ، ترسل من خلالها إشارات كهربائية تؤثر على كيفية أداء الخلايا العصبية لوظائفها، بطريقة ليست واضحة أو مفهومة بشكل كامل حتى الآن، مما قد يساعد المصابين ببعض الأمراض العصبية المنشأ.
وفي رأي البعض، وبعيدا عن الاستخدامات والتطبيقات الطبية العلاجية، تندرج هذه العملية تحت المفهوم الأوسع المعروف بالتعزيز أو التحسين البشري (Human Enhancement) ، والذي يمكن تعريفه على أنه إحداث تغيير طبيعي، أو اصطناعي، أو تكنولوجي لجسم الإنسان، من أجل تعزيز قدراته البدنية أو العقلية. وهناك أشكال مختلفة وعديدة من تقنيات تعزيز الإنسان، منها ما هو قيد التطوير، ومنها ما يجري اختباره وتجربته حاليا. ومن بين التقنيات الناشئة المندرجة تحت هذا المفهوم: الهندسة الوراثية البشرية أي العلاج الجيني، والتقنية العصبية مثل: الغرسات العصبية والواجهات الدماغية-الحاسوبية، والبرمجيات الإلكترونية، و«التحفيز العميق للمخ»، والطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد.
ومما لا شك فيه أن مثل هذه التقنيات تحمل في طياتها معضلات أخلاقية واجتماعية جمة، وخصوصاً ما يعرف بالواجهات الدماغية-الحاسوبية، وهو شكل من أشكال التفاعل المباشر، أو ربما حتى الدمج الفعلي والعضوي، بين خلايا المخ وبين أجهزة الكمبيوتر. هذه المعضلات، وما نتج عنها من مخاوف، أصبحت مصدر قلق لطائفة كبيرة من العلماء والمتخصصين. وخصوصاً في ظل الدفع باستثمارات ضخمة في هذا المجال، من قبل عدد من الشركات العملاقة، وخصوصا تلك الفاعلة والمسيطرة حاليا على شبكة الإنترنت، والتي بعد أن نجحت في احتلال جزء كبير من حياتنا اليومية من خلال الشبكة العنكبوتية وأجهزة الهاتف المحمول، ربما ستسعى أيضاً للسيطرة على أدمغتنا وخلايا مخنا، لتقرأ أفكارنا، وتفسر أحلامنا، وتثير رغباتنا، وتحدد توجهاتنا، عن بعد باستخدام خوادم كمبيوتر فائقة القدرة.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية والطبية