لم يكن الدستور قضية السوريين، فقد كانوا يرددون القول الشهير (اقرأ تفرح، جرب تحزن) وكل الدساتير تتحدث عن الحرية بوصفها حقاً مقدساً وعن كرامة المواطن، وعن حقه في التعبير وفي الإسهام السياسي، وعن استقلال القضاء، وعن حقوق الطفل والمرأة وسوى ذلك مما لا يختلف عليه اثنان.
المشكلة هي في تطبيق الدستور ودقة تنفيذه والالتزام به، ولا يضبط هذا الالتزام سوى حق مساءلة الحكومة من قبل البرلمان، وسوى الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية في أي بلد كان، وقد قيل (إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة) فلابد من حدود للصلاحيات وهذا ما جعل أكثر دول العالم منذ قرون تؤسس المجالس التشريعية لتشارك الشعب في رسم السياسات وفي رقابة العمل الحكومي، وتملك الصلاحيات في حجب الثقة عن الحكومة حين يجدها ممثلو الشعب غير قادرة على تلبية احتياجات المواطنين.
ولقد دعوت سابقاً إلى اعتماد دستور 2012 في سوريا بعد إجراء تعديلات عليه، لأنه يضم حزمة من المواد التي لا خلاف عليها، وأما التعديل فينبغي أن يكون في المواد التي تمنح الرئاسة فيضاً من الصلاحيات المطلقة لكون النظام رئاسياً مفصلاً على مقاس رجل واحد، ولا يعني ذلك تحويل منصب رئيس الجمهورية إلى حالة شكلية دون صلاحيات، فلابد من أن يبقى الرئيس (في أي بلد كان) قائد الأوركسترا الحكومية وضابط إيقاع عملها، وموجه مسارها، وناظم فصل السلطات وضامن حرياتها، وصلة الوصل بينها وبين العالم، ولكن لا يجوز أن تمتد صلاحياته إلى السيطرة المطلقة عليها، وإلى حد إلغائها وجعلها شكلية لا تملك صلاحيات حقيقية، ولا أن تأتمر بأمره بشكل ديكتاتوري، ولاتملك حق مراجعته أو مساءلته (كأن يكون رئيس كل الهيئات التنفيذية والتشريعية والقضائية والحزبية والشعبية والنقابية والعسكرية والمدنية).
هذه الصلاحيات المطلقة تجعل أشد الناس عدلاً قابلاً للتحول إلى مستبد في أي بلد في العالم، يقول فيه الحاكم (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ? ونزعة الاستبداد عبر الأنا المتضخمة موجودة عند كثير من البشر، فلا يحدها إلا الدستور الذي يحترمه الجميع والذي يحدد الصلاحيات بما يحد من نزعات التسلط، ويمنع نمو حالات الاستبداد والطغيان، وفي ذلك مصلحة للحاكم نفسه، وهنا نتذكر قول أبي بكر رضي الله عنه (يا أيُّها الناس، قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني).
فالحاكم المتفرد بالسلطة والمستبد بها والذي لا يهتم لمطالب الشعب واحتياجاته يعرض نفسه لاحتجاجات الشعب وثوراته، وما يخشاه السوريون اليوم هو ألا تتمكن اللجنة الدستورية من إعداد دستور أو إجراء تعديلات جوهرية على الدستور تفتح الآفاق أمام ولادة ديمقراطية جادة تؤسس لعهد جديد يلبي مطالب الشعب، ويعيد الأمن والاستقرار إلى سوريا.
وأهم ما ينتظره السوريون هو أن تتم إعادة هيكلة الجيش وأجهزة الأمن، وغاية ما ينشده الشعب هو الحكم الرشيد الخارج عن سلطة الطائفية البغيضة والمرسخ لمفهوم المواطنة والرافض لكل دعوات الانفصال أو التقسيم أو الرضوخ للنفوذ الأجنبي.
ولا يخفى على شعبنا أن الحل السياسي هو رهن إرادة جادة بإنهاء المأساة، وبما أن الحكومة السورية أعلنت أن وفدها إلى اللجنة الدستورية لا يمثلها، وإنما هي تدعمه فقط، فإن اللجنة الدستورية باتت تغرد في فضاء لاصدى فيه، وهذا ما يجعل المتفائلين بإمكانية أن تكون فاتحة خير يفقدون آمالهم.
كما أن الرفض المسبق لإشراف الأمم المتحدة على الانتخابات المزمع عقدها بناء على الدستور الذي يتم إعداده حالياً سيعيد القضية السورية إلى الهوة السحيقة التي خرجت منها، وهذه المواقف تحتاج إلى معالجة دولية، ذاك أن القرار الدولي 2254 وبيان جنيف وهما خريطة الطريق إلى الحل السياسي، يقضي بأن تتشكل هيئة حكم انتقالي تتشكل فيها حكومة تشاركية، تدعو إلى مؤتمر وطني تنتج عنه لجنة تضع مسودة الدستور، ثم تكون الدعوة إلى الانتخابات تحت إشراف أممي، لكن ما حدث هو وضع العربة قبل الحصان، وهذا ما يجعل الشعب السوري يرقب النتائج قبل إعلان التفاؤل.