فوجئت واشنطن قبل أسبوع، بإعلان الرئيس ترامب أنه لن يعرقل غزواً تركياً وشيكاً لشمال شرق سوريا. وبعد مرور أيام قليلة تحصد إدارته بالفعل ما بذرته. وبدأ الاقتحام التركي في عدة نقاط على الحدود مع سوريا يوم الأربعاء الماضي، وبحلول مطلع الأسبوع الجاري، سقطت المنطقة في فوضى. وقصفت المدفعية التركية مواقع للأكراد السوريين، وظهرت صور توضح رجال ميليشيات موالية للأتراك تنفذ عمليات إعدام مروعة على الطريق لمقاتلين أكراد متحالفين مع الولايات المتحدة. وحاول عشرات الآلاف من المدنيين المذعورين الفرار من التقدم الذي يقوده الأتراك، مما أثار مخاوف من خروج جماعي إلى منطقة كردستان العراق، التي يعيش فيها أكثر من مليون نازح في مخيمات.
وأصر ترامب، في تغريدة على تويتر، أن بلاده ينبغي أن تتخلص من التزاماتها في «الرمال المتحركة» للشرق الأوسط. وصرح وزير دفاعه، مارك اسبر، لبرنامج «واجه الأمة» في شبكة «سي. بي. إس»، الأحد الماضي، أن الولايات المتحدة الآن في «وضع لا يمكن الدفاع عنه للغاية»، وسترحل جميع جنودها الألف في شمال شرق سوريا. وذكر تقرير في «واشنطن بوست» أن أمر ترحيل القوات، يوم السبت، جاء في نهاية يوم عمته الفوضى، وتضعضع فيه سريعاً صمود البعثة الأميركية في سوريا، بعد توغل القوات التركية وحلفائها من المتمردين السوريين داخل الأراضي السورية، وقطعت خطوط الإمداد الأميركية. وجاء هذا الانسحاب ليعارض تماماً تأكيدات البنتاجون قبل أيام قليلة بأن الولايات المتحدة لن تتخلى عن شركائها الأكراد السوريين، الذين كانوا في الخطوط الأمامية في قتال «داعش» وتكبدوا أكبر العبء.
لكن المتاعب الأمنية تصاعدت في غمرة الانسحاب الأميركي، فربما فر مئات المحتجزين من «داعش» في معتقل يحرسه مقاتلون أكراد، وفي الساعات الأخيرة من يوم الأحد، أشارت تقارير إلى أن قوات النظام السوري تتجمع في مناطق كانت خاضعة لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، التي تمثل تحالفاً يقوده الأكراد، وقد أصبح مستهدفاً من تركيا الآن.، ولجأت «قوات سوريا الديمقراطية»، بعد أن تخلت عنها الولايات المتحدة- إلى الرئيس السوري بشار الأسد التماساً للحماية، وصرح سياسي كردي سوري لوكالة أنباء «رويترز»، أن مسؤولين من «قوات سوريا الديمقراطية» اجتمعوا بمسؤولين من نظام الأسد في قاعدة جوية روسية في سوريا لإيجاد اتفاق، وبحلول مساء الأحد، أكدت «قوات سوريا الديمقراطية» أنها- لمواجهة الغزو التركي- استدعت النظام الحاكم إلى مناطق كانت خاضعة لها سابقاً بحماية من الولايات المتحدة.
والهدف الذي لا تكاد تخفيه تركيا من غزوها، هو تدمير «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا»، التي أقامتها «قوات سوريا الديمقراطية»، خلال السنوات القليلة الماضية، وتنظر تركيا إلى الفصيل الكردي السوري الرئيسي باعتباره امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني»، وهو جماعة كردية انفصالية محظورة، خاضت تمرداً ضارياً على مدار عقود ضد أنقرة، وإذا وقع شمال شرق سوريا تحت المظلة الأمنية لدمشق، فقد يكون هذا بحد ذاته نتيجة مرضية للأتراك، ويرى محللون أن دور روسيا في الوساطة للتقارب بين الأسد والأكراد السوريين بعد الغزو التركي، ربما يكون علامة على مسعى روسي تركي لإنهاء الصراع السوري.
وصورت إدارة ترامب نفسها كمتفرج بلا تأثير، وصرح اسبر لشبكة «سي. بي. إس»: «لدينا قوات أميركية وقعت بين جيشين متعارضين يتقدمان». وفي تغريداته يوم الأحد، أنكر ترامب أي مصلحة في المعركة، مؤكداً أنه «من الذكاء الشديد ألا نتورط في قتال مكثف»، على امتداد الحدود التركية السورية.
وجادل بعض الخبراء، بأن الانسحاب الأميركي من شمال شرق سوريا كان ضرورياً، وإن انتقدوا الطريقة التي تم بها، فقد كان ترامب مصمماً منذ شهور على سحب القوات الأميركية، والدعم الأميركي لـ«قوات سوريا الديمقراطية» تعارض دوماً مع حاجة واشنطن لإبقاء تركيا إلى جانبها، رغم التعاطف الكبير تجاه المقاتلين الأكراد السوريين داخل أوساط النخبة الأميركية.

*صحفي متخصص في الشؤون الخارجية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»