بالنسبة لمن يعتقدون أن الدولة الأكثر حظاً هي تلك التي لا توجد بها حكومة، فلابد أن إسبانيا تمثل أنموذجاً في هذا المجال. ويتجه المواطنون الإسبان في العاشر من نوفمبر المقبل إلى صناديق الاقتراع للمرة الرابعة في غضون أربع سنوات، بعدما أخفقت الأحزاب السياسية في البلاد في التوصل إلى تسوية لتشكيل أغلبية حاكمة.
ومع صعود نجم مدريد في الاتحاد الأوروبي، واستمرار نمو الاقتصاد الإسباني بمعدلات أسرع من بقية التكتل، فربما يمكن التماس العذر لمن يتصور أن التوصل إلى حل سياسي هو آخر شيء يحتاجه الإسبان.
لكن مثلما هو الحال مع بقية دول أوروبا، تتفاقم التحديات التي تنتظر مدريد في الأفق. فالاقتصاد نما بمعدل أقل مما كان متوقعاً خلال الربع الثاني من العام الجاري، وهو ما يُظهر أن إسبانيا معرّضة هي أيضاً لخطر الانزلاق في أزمة التجارة والاضطراب الاقتصادي العالمي.
وفي أوروبا، تنظر فرنسا إلى إسبانيا باعتبارها شريكاً محتملاً لإصلاح التكتل، بيد أن هذا التعاون سيكون من الصعب تحقيقه في غياب حكومة قوية في مدريد. ومن المأمول أن تُفرز الانتخابات المقبلة إما فائزاً واضحاً أو أن تتوصل الأحزاب السياسية في نهاية المطاف إلى تسوية لخلافاتها.
ولم يكن من الضروري أن تنتهي الانتخابات العامة السابقة، التي عقدت في أبريل الماضي، إلى حالة جمود سياسي، ذلك أن بيدرو سانشيز قاد حزبه الاشتراكي إلى الصدارة، لكنه لم يفز بمقاعد كافية تمكنه من الحكم بمفرده. وكان بمقدوره أن يوحد القوى مع ألبيرت ريفيرا، زعيم حزب «المواطنون» الوسطي، لو أنهما كانا قد اختارا تجاوز خلافاتهما بشأن الحملة الانتخابية القاسية. وفي تلك الحالة، كانت إسبانيا ستحظى بحكومة قوية مؤيدة للاتحاد الأوروبي، وقادرة على الجمع بين دعوة حزب «المواطنون» للإصلاح وإعادة توزيع الثروة التي يطالب بها الاشتراكيون.
ويقع معظم اللوم على ريفيرا، إذ أصر في البداية على أنه لن يبرم صفقات مع سانشيز. وارتكز موقفه بصورة جزئية على اقتناع مع قدر من الانتهازية: فلعله تصور أن إجراء انتخابات جديدة من شأنه تعزيز حظوظ حزبه، على حساب حزب الشعب الضعيف.
وخلال الأسبوع الجاري، سعى ريفيرا إلى إبرام تسوية في اللحظات الأخيرة مع سانشيز، حيث وافق على إفساح الطريق أمام تشكيل حكومة إذا ما قبل الاشتراكيون شروطاً محددة، من بينها وعد بعدم زيادة الضرائب على الطبقة المتوسطة. غير أن هذا العرض بدا طريقة لإلقاء اللوم على سانشيز في عقد انتخابات جديدة. وتُظهر أحدث استطلاعات الرأي أن ريفيرا يجازف بالحصول على مقاعد أقل في الانتخابات المقبلة، وهو ما يشي بأن استراتيجيته قد أتت بنتائج عكسية.
وبالطبع، فقد اختار سانشيز مقامرة عالية المخاطر. فقضى شهوراً يتفاوض مع حزب «يونيداس بوديموس» اليساري المتشدد، لكنه ترك انطباعاً بأنه لم يكن أبداً حريصاً على إنهاء المفاوضات. وكان يأمل في أن يتمكن من كسب أصوات من «بوديموس» في اليسار وأخرى من «المواطنون» في اليمين ليحظى هو بأغلبية صريحة في الانتخابات المقبلة. وإذا ما نجح، فإنها ستكون المرة الأولى منذ عام 2011 التي يتمكن فيها حزب واحد من تولي السيطرة على البرلمان الإسباني من دون الدخول في ائتلاف.
وستُظهر الأسابيع القليلة المقبلة ما إذا كان رهان سانشيز سينجح، لكن السيناريو الأكثر إقناعاً هو أنه سيتعين على الأحزاب الإسبانية مرة أخرى بناء جسور وتجاوز الخلافات من أجل التمكن من تشكيل حكومة. وسيتطلب ذلك التغلب على الأحقاد بين قوى الوسط في البلاد، لإظهار أن الساسة يمكن أن يكونوا مفيدين حقيقة لشعبهم.
فيرديناندو جيوليانو
كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية الأوروبية
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»