من بين الأشياء الغريبة، بشأن أزمة «بريكست» البريطانية، هو أن تداعياتها أخذت تطال دستور البلاد غير المكتوب. استفتاء واحد مصمم على نحو أخرق فجّر سلسلة مخيفة من ردود الفعل. وتلاحم المملكة المتحدة ربما بات في خطر اليوم.
أحدث مؤشر على هذه الثورة غير المخطط لها جاء من اسكتلندا يوم الأربعاء، حيث حكمت أعلى محكمة هناك بأن بوريس جونسون، رئيس الوزراء، تصرّف على نحو مخالف للقانون حين علّق أعمال البرلمان لخمسة أسابيع. ونتيجة لذلك، باتت المراقبة القضائية لأعمال الجهاز التنفيذي، المألوفة في الولايات المتحدة وغير المألوفة في بريطانيا، جزءاً من المشهد السياسي البريطاني. والآن ستُستأنف القضية في المحكمة العليا للبلاد.
استفتاء بريكست، الذي صُمم على نحو مروع، على اعتبار أنه دعا الشعب إلى التصويت لصالح «الانسحاب» من دون أن يحدد ما يعنيه الانسحاب، قسّم البلاد إلى نصفين متعادلين تقريباً. وكانت كل من حكومة «ماي» وحكومة جونسون ترغبان في تجنب حالة الارتباك والاضطراب التي نتجت عن ذلك، عبر تمرير نسخة من بريكست – نسخة ما، أي نسخة – من دون تأييد البلاد. ولكن البرلمان والقضاء يحولان دون ذلك حتى الآن. وهكذا، تجنبت بريطانيا خطوة لا رجعة فيها من شأنها الإضرار باقتصادها وتقليص نفوذها العالمي.
ولكن الاختبار الأكبر سيحل قريباً. ذلك أن البلاد تتجه نحو انتخابات يبدو جونسون مصمماً على صياغتها في صيغة «البرلمان ضد الشعب». ولا يهم هنا أن جونسون نفسه ينحدر من قلب المؤسسة السياسية. وبتحفيز من مستشاره دومينيك كمينجس، سيخوض حملته كراديكالي شعبوي معادٍ للنظام.
وهذا يعني، على أقل تقدير، أن جونسون سيمضي أسابيع في محاولة إقناع الناخبين بأن المؤسسات السياسية متحاملة ضده. وسيقول إن الإرادة الحقيقية للشعب عُبّر عنها من خلال الاستفتاء، وإن أولئك السياسيين المتعالين والأنانيين الذين في البرلمان يريدون إخفاءها. كما سيتم التشكيك في شرعية المحاكم. وقبيل تعليقه مؤخراً، كان البرلمان قد مرّر قانوناً يطالب جونسون بطلب تمديد جديد لموعد البريكست، فكان أول رد فعل لرئيس الوزراء هو أن القانون يمكن تجاهله. كما أنه فور إصدار المحكمة الاسكتلندية حكمها ضد تعليق البرلمان يوم الأربعاء، ألمح مصدر مجهول من فريق جونسون إلى أن حكماً صدر في أسكتلندا قد يكون حكماً غير شرعي.
والواقع أنه حتى الآن تتمتع بريطانيا بثقة في المؤسسات العامة تسمح لها بالجمع بين قطاع خاص حيوي ودولة فعالة. إذ تحظى المحاكم والبرلمان والجهاز البيروقراطي باحترام شعبي، وعلى نحو غير مفاجئ، تمتلك بريطانيا قطاعاً تكنولوجياً متطوراً ونظامي نقل عام ورعاية صحية جيدين. غير أن حملة جونسون المقبلة ستبذل قصارى جهدها لتقويض هذا الرصيد الاجتماعي الثمين. ومرة أخرى، ستصبح بريطانيا مثل الولايات المتحدة، حيث أدت سنوات من الحملات السياسية التي تشكّك في شرعية الحكومة وفعاليتها إلى انعدام الثقة والجمود السياسي.
ثم هناك مسألة ما سيحدث بعد الانتخابات. استطلاع حديث للرأي توقع حصول حزب جونسون –«المحافظين» – على 30 في المئة، وحزب «العمال» المعارض على 29 في المئة، بينما تقسّم 40 في المئة على بقية الأحزاب، وهي نسبة عالية على نحو غير مألوف. هذا في حين منح استطلاع آخر للآراء جونسون تقدماً على حزب العمال بـ32 لـ23 في المئة. هذه الأرقام يمكن أن تترجم، في النظام الانتخابي البريطاني، إلى أغلبية عامة لـ«المحافظين» في البرلمان، وفي هذه الحالة سيحصل جونسون على ما يريده ويغادر الاتحاد الأوروبي دون اتفاق متفاوض عليه. وهكذا، يستطيع زعيم يحظى بدعم ثلث البلاد فقط التسبب لشعبه في صدمة كارثية: برلمان منقسم لا يمتلك فيه أي حزب أغلبية. وفي هذه الحالة، سيفتقر ائتلاف هش للقوة لحل مشكلة البريكست. وستظل الاستثمارات التجارية في حالة ضعف. والاقتصاد سيصيبه الركود. والناخبون سيزدادون غضباً.
غير أن ما يجعل هذا الاحتمال مقلقاً بشكل خاص، هو أن دستور بريطانيا غير المكتوب يوحّد أربع دول قد تقرر أن تذهب كل واحدة منها لحال سبيلها. فبزيادتها شبح حدود إيرلندية مادية، زعزعت بريكست وضع أيرلندا في الاتحاد منذ الآن. وبتهديده بقطيعة صلبة مع أوروبا، سيزيد جونسون من استعداء الناخبين الاسكتلنديين الذين أرادوا البقاء في الاتحاد الأوروبي. وخلاصة القول إن شرعية نظام ويستمنستر وسمعته هما بمثابة الغراء الذي يبقي على المملكة المتحدة موحدة. غراء بات يخضع لضغط غير مسبوق اليوم.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»